سيكتب التاريخ أن أستاذ القانون الدستوري -الذي لا يملك حزبا ولا جماعة- استطاع أن يستعيد الدولة التونسية، رغم وقوف تحديات داخلية وخارجية في طريقه.
جرى هذا عندما أراد الرئيس قيس سعيد أن يتجاوز الأحزاب في سعيه لتحقيق إصلاح حقيقي يستهدف مصلحة المواطن التونسي البسيط، ويستعيد الدولة التونسية عريقة المؤسسات والممارسات.
لقد نجح الرئيس قيس سعيد في تحقيق تغيير جذري بمنهج يبدأ من جذور المسائل والقضايا، إما بغرس جذور الإصلاح، أو اجتثاث جذور الفساد.. وقد كان الاستفتاء على الدستور -الذي تم في يوم 25 يوليو 2022 بعد مرور عام كامل على تعليق العمل بدستور 2014 الهجين المصمّم لخدمة قوى سياسية معينة تدور في فلك حركة “النهضة” الإخوانية- لحظة تاريخية فاصلة بين عهدَيْن مرت بهما الدولة التونسية في العشرية الفاشلة الأخيرة.
ورغم الترحيب الداخلي والإقليمي بنتائج الاستفتاء ونسبة المشاركة فيه، فإن صدى صوت “باراك أوباما” و”هيلاري كلينتون” يرجّع في بيان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الذي نشره موقع الوزارة، معتبرًا أن الاستفتاء على الدستور التونسي الجديد “اتسم بتدنّي نسبة الإقبال على التصويت”، وأن هذا يعبّر عن “التراجع المفزع في الممارسة الديمقراطية”، وأن واشنطن تدعم بقوة الديمقراطية في تونس وتطلعات الشعب التونسي إلى مستقبل آمن ومزدهر.
وقد أضاف بيان وزارة الخارجية الأمريكية: “نحن نشاطر العديد من التونسيين مخاوفهم من أن عملية صياغة الدستور الجديد حَدَت عن نطاق النقاش الحقيقي”، وأن الدستور الجديد “يمكن أن يُضعف الديمقراطية في تونس ويقوّض احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية”.
ثم بعد ذلك دعا البيان إلى “قيام عملية إصلاح شاملة وشفافة للشروع في استعادة ثقة الملايين من التونسيين، الذين لم يشاركوا في الاستفتاء، أو عارضوا الدستور الجديد”، وحث على ضرورة “السرعة في إقرار قانون انتخابي شامل من شأنه أن يمكّن من مشاركة أوسع في الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في شهر ديسمبر، خاصة مشاركة تشمل مَن عارض أو قاطع الاستفتاء على الدستور”.
وذكر “بلينكن” أن تونس شهدت على مدار العام الماضي “تراجعا مُقلقًا عن المعايير الديمقراطية”، وقوّضت العديد من المكاسب التي حققها الشعب التونسي بشق الأنفس منذ عام 2011.
وأخيرًا هدّد، وبالتنسيق مع الحلفاء والشركاء، أن ستستمر الولايات المتحدة في استخدام جميع الأدوات المتاحة لدعم الشعب التونسي في تشكيل حكومة ديمقراطية خاضعة للمساءلة، تُحافظ على مساحة النقاش والمعارضة الحرة، وتحمي حقوق الإنسان الأساسية.
هنا يثور السؤال المنطقي: ماذا تريد واشنطن من تونس؟ أو في تونس؟..
وهل دستور 2014 الهجين، الذي لا يُعرف له مثيل في العالم، كان نموذجًا يستحق الدفاع عنه؟
وهل ما نتج عن دستور 2014 من سلطات وممارسات وقوى سياسية تمكنت من الدولة التونسية فمارست الفساد، بحيث دخل أحد رؤساء أحزاب الأغلبية البرلمانية الحاكمة السجن بتهم الفساد وتورطت قيادات حركة النهضة الحاكمة في اغتيالات سياسية للمعارضين، وبيع قرار الدولة لقوى خارجية، والتدخل في شؤون دول الجوار، وتسهيل سفر الإرهابيين للانضمام إلى داعش… هل كل تلك النتائج التي مهّد لها الدستور السابق تستحق تلك الغضبة “الديمقراطية” من وزير الخارجية الأمريكية؟
أسئلة كثيرة تقفز إلى الذهن بمجرد قراءة البيان الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية، الذي يفتقد أبسط البَدَهيات عن تونس، وعن الشعب التونسي، وعن الأجندة السياسية للرئيس التونسي.
إن أبسط المعلومات عن رئيس تونس تقول إنه يستثمر التدخل الخارجي في الشأن التونسي في ترسيخ شرعية قراراته وإجراءاته، وأنه نجح في استثمار الثقافة الشعبية المعتزة بالذات والهوية في مواجهة التدخلات الخارجية وفي نزع الشرعية عن القوى السياسية التونسية، التي تستعين بأطراف دولية لدعمها، وأنه نجح في ذلك نجاحًا مشهودًا حتى في مواجهة القوى التونسية الأكثر شهرة وذيوعًا، سواء الاتحاد التونسي للشغل، أو القضاء.
إن بيان وزير الخارجية الأمريكية بالتأكيد سوف يقدم خدمة غير مسبوقة للإجراءات الإصلاحية، التي يتخذها الرئيس التونسي، وسوف يحقق عكس أهدافه، وسوف يثبت أن عهد “باراك أوباما” و”هيلاري كلينتون” قد انتهى إلى غير رجعة، كما انتهت القوى السياسية المنتمية لتنظيم الإخوان الفاشل، الذي راهنوا عليه في مصر وتونس وليبيا وغيرها.