سياسة

زيارة زيلينسكي الأولى

بهاء العوام


لأول مرة منذ بدء حرب بلاده مع روسيا، يقرر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، السفر خارجا.

لم يختر أي دولة غربية دعمت أوكرانيا وزار قائدُها كييف خلال الأشهر العشرة الماضية.. وإنما مضى إلى نظيره الأمريكي، جو بايدن، ليتحدث في الدعم المنتظر للمرحلة المقبلة من الحرب، وهي تقترب من نهاية عامها الأول.

الولايات المتحدة هي أكثر دول العالم دعما لكييف بالمال والسلاح منذ بدء الحرب الروسية-الأوكرانية.. ورغم ذلك فشل زيلينسكي مرارا في دفع بايدن إلى زيارة كييف.

ربما لن يضيف أو ينقص قدوم بايدن من دعم واشنطن، ولكن رمزية زيارة الرئيس الأمريكي مهمة، وكانت لتحمل رسائل عديدة ومؤثرة لكل من تعنيه الحرب بشكل أو بآخر.

ثمة أسئلة تثيرها زيارة الرئيس الأوكراني إلى الولايات المتحدة، منها:

هل زيلينسكي هو من قرر السفر إلى واشنطن، أم أنه “استُدعي” لغايات في نفس الإدارة الأمريكية؟

وهل تحمل زيارته رسائل للقادة الغربيين، الذين زاروا كييف في الحرب دعما، ولكنهم لم ينالوا شرف أن يطأ زيلينسكي أرض بلادهم؟

وهل تُبشر الزيارة موسكو بمرحلة جديدة في الحرب عنوانها السلاح الأمريكي في مواجهة الروسي على الأرض الأوكرانية؟

ما تسوّقه روسيا من اتهامات للولايات المتحدة بدعم حكومات أوكرانيا منذ 2014، وما تحمله “فضائح هنتر بايدن” في الدولة السوفييتية السابقة، يشي بأن زيلينسكي كان “أداة تنفيذية لاستراتيجية أمريكية في أوروبا”، فحواها باختصار خصومة غربية روسية طويلة الأجل تُبقي للولايات المتحدة اليدَ الطولى في القارة العجوز، وتقضي على أي احتمال للتقارب بين الروس وجيرانهم، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والتجاري.

صحيح أن روسيا هي من بدأ العملية العسكرية.. ولكن حسابات موسكو لا تبرئ أمريكا من خلق أجواء الحرب، ودفع جميع الأطراف إلى خوضها في سياق خطة وُضعت على مدار سنوات.. تماما كما يحدث اليوم في تايوان، التي تُعدّها واشنطن لتكون جبهة الحرب الغربية المقبلة مع الصين. 

إلى جوار زيلينسكي، يقف بايدن ويعلن من واشنطن عن إرسال منظومة “باتريوت” إلى كييف.

وفي الإعلان ثلاث رسائل مبطنة، واحدة منها لموسكو، والثانية للأوروبيين، والأخيرة لجميع دول العالم، التي ظنت أن السياسة الأمريكية إزاء أوكرانيا سوف تتغير بعد فوز الجمهوريين بغالبية مجلس النواب في انتخابات الكونجرس الأخيرة.

في رسالتها إلى موسكو، تقول الإدارة الأمريكية إن الروس “قد خسروا الحرب” وفق التصور الأولي للرئيس فلاديمير بوتين.. عندما ظن أن سقوط كييف لن يستغرق أكثر من ساعات قليلة، ومن بعدها ستعود أوكرانيا إلى حضن الاتحاد الروسي، بعيدا عن أي “مؤامرات” من قبل حلف الناتو أو الولايات المتحدة.

وفي الرسالة إلى موسكو أيضا، تقول واشنطن إن ضم المناطق الأوكرانية من قبل روسيا منح الحرب أجلا طويلا.. وفي هذا الخيار مصلحة أمريكية ورهان على “انتصار” كييف في نهاية المطاف، وذلك بفضل الدعم العسكري الذي سوف يأخذ أشكالا جديدة من قبل كل خصوم الروس في الغرب، وخاصة دول الجوار في القارة الأوروبية.

وتغيير شكل الدعم العسكري لكييف بما يلائم حربا طويلة الأجل مع موسكو هو مضمون الرسالة الأمريكية إلى الأوروبيين من استضافة زيلينسكي.. وهي تأخذ طابع “الأمر والتوجيه” لدول القارة العجوز أكثر من الطلب.

أن تكون أمريكا هي الوجهة الخارجية الأولى للرئيس الأوكراني زيلينسكي منذ فبراير الماضي، فإن هذا أمر يدلل بوضوح على أن واشنطن صاحبة القول الفصل في الحرب مع الروس.. لن يكون هناك سلام دون موافقتها، ولن تأخذ المعارك مسارات معارضة لإرادتها.. وبالتالي لا نفع لأي محاولات أوكرانية أو أوروبية نحو هدنة أو وقف القتال هناك.. الفرنسيون يحاولون ذلك جاهدين، لعل الهدنة تُفضي إلى وقف الحرب التي أرهقت الاتحاد الأوروبي مع أوكرانيا وروسيا.. ولعلها أيضا تُوقف استغلال الولايات المتحدة لحاجة أوروبا إلى الغاز، وتذرّعها بحاجة الشركات الأمريكية إلى المساعدة بخطة دعم حكومي تحرج كل دول القارة العجوز، وتصيب الشركات الأوروبية في مقتل بتجارتها.

بعيدا عن الأوروبيين، تريد إدارة البيت الأبيض من خلال “استدعاء” زيلينسكي، أن تقنع دول العالم باستمرار الحرب الغربية مع الروس.. وبالتالي لا جدوى من رسم الخطط وبناء الاستراتيجيات على ضوء احتمالات انتهاء الحرب قريبا.. أو استنادا على اعتقاد بأن روسيا ستنتصر يوما وتهدد النفوذ الأمريكي على الضفة الأخرى للأطلسي.

تريد واشنطن أن تجعل روسيا “مثالا لكل دولة تحاول التطاول على المصالح الأمريكية” أينما وجدت.. وربما يتحول استنزاف موسكو في حرب طويلة الأجل مع كييف إلى “انتصار” للولايات المتحدة مع مرور الوقت.. وخاصة إن استطاعت الإدارة الأمريكية صناعة الحشد الدولي المطلوب لإضعاف الروس اقتصاديا، وليس سياسيا فقط.

ربما لا يقرأ زيلينسكي كل هذه الرسائل في زيارته إلى واشنطن. وربما لا يعنيه من كل هذه الرسائل إلا تلك التي “تأمر” حلفاء كييف بزيادة دعمهم كما وكيفا، في مواجهة الروس.

وعندما يعود إلى بلاده قد يقرر زيارة الدول الأوروبية التي تستجيب لـ”الأوامر” الأمريكية، فيصبح قدومه إلى تلك الدول “مكرمة” ودليلا على صدق دعم كييف.

بالنسبة للروس، فقد استعدوا للحرب طويلة الأجل مع حلف شمال الأطلسي فوق أرض أوكرانيا.. وربما يزيدون من استعدادات المواجهة مع الحلف بعد زيارة زيلينسكي لأمريكا.

لن يكرر بوتين الخطأ ذاته مرتين، ويطلق أول رصاصة في الحرب.. ولعل الأوروبيين أيضا لا يكررون أخطاءهم، ويستيقظون من وهم وحدة مصير دول الغرب وراء الولايات المتحدة.. وكما يقول رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ المملكة المتحدة، ونستون تشرشل: “كلما حدقت أطول إلى الخلف، استطعت النظر أبعد إلى الأمام”.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى