سياسة

أوروبا والخيارات المجحفة

عبدالحميد توفيق


استفاقت أوروبا على احتياجاتها الطاقوية المُلحة مع وصول ضيفها القاهر بصقيعه وثلوجه إلى مضاربها.

ركنت إلى بعض الوعود الأمريكية بتعويضها عن الغاز الروسي فكانت المفاجأة، بل الصدمة.. واشنطن تطلب ثمن الغاز الأمريكي من أوروبا بما يعادل أربعة أضعاف ما كانت تسدده الأخيرة إلى روسيا عن الكمية ذاتها التي تحتاج إليها للتعايش مع ضيفها القاهر “الشتاء”.

ارتفعت أصوات عدد من المسؤولين الأوروبيين احتجاجا، بل وبعضها الآخر استنكارًا لما اعتبروه “تحكما واستغلالا” من جانب حليفهم الأمريكي، بسبب حاجتهم وتقلص خِياراتهم البديلة لاستجرار الغاز.

تدرك الولايات المتحدة ضغط الحاجة إلى الغاز الذي تعانيه أوروبا وما يعنيه نقصه من تراجع في الإنتاج وتعثر في الاقتصاد ومتاعب لمواطنيها غير المعتادين على معاناة من هذا القبيل، ويصعب على المواطن الأوروبي قبول التنازل عن حقوقه الأساسية مهما كانت التبريرات.

قد تستطيع دول أوروبا، أو عدد منها، تحمّل الخسائر المتعلقة بالدورتين الإنتاجية والاقتصادية لفترة محدودة، لكن ماذا بالنسبة لاحتمالات الانفجار الاجتماعي في تلك الدول؟ وماذا يمكن أن تؤسس الانفجارات في حال حدوثها؟ هل تؤسس لنوع من الفوضى داخل تلك الدول ضمن حدود المطالب الخدمية المشروعة وحسب؟ أم تشكّل رافعة ضغط على السياسيين وتدفعهم نحو اتخاذ قرارات ومواقف متمايزة عن السياسات الأمريكية في موضوع النزاع الروسي-الأوكراني تحديدا، كونه العامل المسبب لمعاناتهم، على أمل التأسيس لمرحلة من الاستقلال في القرارين السياسي والاقتصادي الأوروبي؟ هل يتحول “الاستغلال الأمريكي” إلى فرصة بيد الأوروبيين لإعادة التوازن إلى قارتهم من ناحية، ومنطلقا لدور أوروبي فاعل يضع حدا للنزاع المستعر قبل فوات الأوان من ناحية ثانية؟

السؤال الأكثر حضورا: هل تمتلك دول الاتحاد الأوروبي عوامل ومقومات النأي عن العباءة الأمريكية ولو نسبيا؟

أمام دول الاتحاد الأوروبي واحد من خِيارين، فإما أن تغالب جروحها وتقبل بالعرض الأمريكي وشروطه، كونها تحت ضغط الحاجة المُلحة، وإما أن تنتهج سبلا أخرى بديلة تحقق أغراضها، وأولها تأمين احتياجاتها من الغاز بما يتناسب مع قناعاتها السعرية، وثانيها التخفف من العبء الأمريكي الثقيل الجاثم على كاهلها، ولو اقتصاديا.

القبول بالعرض الأمريكي يبدو أسهل عليها من تأمين البدائل حاليا.. فالإدارة الأمريكية تعي أن مسألة تأمين البديل ليست في متناول الأوروبيين بيسر وسهولة، خاصة بعد الانفجار الذي ضرب خطوط نقل الغاز الروسي “نورد ستريم 1 و2” في أعماق بحر البلطيق، الناقل للغاز الروسي إلى أوروبا عموما، وألمانيا تحديدا.

دول الاتحاد الأوروبي ليس بإمكانها الاعتماد على آسيا كبديل، بسبب بُعد المسافة والتكاليف الكبيرة التي تتطلبها عملية تسييل الغاز الطبيعي ومد خطوط الأنابيب، إذ تحتاج إلى سنين ومليارات اليوروهات، علاوة على مرور خطوط الغاز الآسيوية المفترضة عبر الأراضي الروسية، وفي أحسن الحالات عبر أراضي دول حليفة لروسيا، مثل كازاخستان وأذربيجان.

حالُ دول الاتحاد الأوروبي في أفريقيا ليس أوفر حظا، حيث يتراجع الحضور والتأثير الأوروبي باطّراد في عموم دول القارة السمراء، فرنسا أكثر الأمثلة تعبيرا عن ذلك التراجع.

وقد استغلت واشنطن مقدرات ومقومات أوروبا السياسية والاقتصادية ووظّفتها في خدمة أهدافها ومصالحها واستراتيجيتها ضد روسيا عبر الساحة الأوكرانية.. استثمرت هواجس الأوروبيين الأمنية حين ضخّمت خطر جارتهم روسيا، فوسعت مروحة هيمنتها على القارة بلا منازع، بعد أن قامت بتحييد الدور الاقتصادي الروسي التفاعلي مع دولها.

ولا تغيب عن موسكو مرامي واشنطن البعيدة من وراء هذه السياسة، ولا تُنْكر ما حصدته الأخيرة من نتائج.

ردُّ روسيا اتخذ منحى تصعيديا على الأرض في رسالة، بعض سطورها موجه للأوروبيين، “ألا تراجُع عما يحقق أهدافنا ويعزز مكانتنا ودورنا وتأثيرنا على المسرح العالمي سياسيا وعسكريا واقتصاديا”.

موقف لا شك يداعب مخيّلة قادة دول الاتحاد أو بعضهم، وقد يدفع بعضهم نحو إجراء مراجعة ذاتية لسياساته ومدى نجاعتها  في ظل تنامي الضغوطات الطاقوية، والضباب الذي يلف الفضاءات المفتوحة للنزاع الروسي-الأوكراني وأعبائه الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتصاعدة مع مرور الأيام.

الرهان على قسوة فصل الشتاء حين يزمجر في أروقة البيت الأوروبي ويعصف بكثير من الآمال والأمنيات الدافئة لا يبدو رهانا خائبا، قد تتفجر معاناة الأوروبيين على شكل صرخات مدوية في وجه التبعية الأوروبية لواشنطن، ومناشدات لانتهاج سياسة أكثر استقلالية وتوازنا تحقق مصالحهم وتلبي احتياجاتهم وتصون حاضرهم ومستقبلهم.

أوروبا، وهي تحت وطأة الضغوط من طرفي الصراع، أمريكا وروسيا، تملك حتى الآن مفاتيح أبواب ساحات الحوار بين الجانبين.. روسيا ترنو إلى ذلك باهتمام.. وليس بعيدا أن تفرض المصالح نهجا مغايرا على الجميع.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى