في كلمته أمام القمة الإقليمية، التي ضمت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن: “لن نترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”.
لم تكن هذه زلة لسان، بل نص مكتوب مرّ على العديد من المؤسسات الأمريكية الكبرى، التي تشارك في عملية صنع القرار، وقد تم إلقاؤه في قمة مهمة للولايات المتحدة الأمريكية، حددت لها موعدًا منذ فترة طويلة وعقدت في 15 يوليو 2022 في جدة السعودية.
في هذه الجملة القصيرة أرسلت القيادة الأمريكية العديد من الرسائل الاستراتيجية الخطيرة جدا على المنطقة العربية عامة، ومنطقة الخليج خاصة، هذه الرسائل تحتاج إلى قراءة عميقة وتفكير طويل واستعداد استراتيجي أطول وأعمق.
وهذه الرسائل الاستراتيجية يمكن تلخيصها في الآتي:
أولاً: ترسيخ وشرْعنة حالة “الفراغ الاستراتيجي”، وهي حالة افتراضية لا تعبّر بصورة واقعية عن التطورات الأخيرة، التي شهدتها المنطقة، فمنذ عام 1990 حين دخلت قوات صدام حسين إلى الكويت كان هناك فعلا فراغ استراتيجي، ولكن اليوم وبعد مرور ثلث قرن تطوّرت فيه جيوش المنطقة، وتنوع تسليحها، وتدربت كوادرها العسكرية في أعظم المؤسسات الدولية وأكثرها خبرة.. لا يمكن الحديث عن “فراغ”، فقد يكون هناك عدم توازن في القوى الإقليمية، ولكنه ليس فراغًا.
ثانيًا: الحديث عن القوى الدولية المرشحة لملء هذا الفراغ يحمل قدرًا مما يسمونه في العلاقات الدولية “النبوءة المحقّقة لذاتها”، أي كأنه -بايدن- يريد أن يشجع بعض هذه الدول، خصوصًا إيران، للمنافسة على ملء “هذا الفراغ”، لأن القوى الثلاث، التي ذكرها الرئيس الأمريكي ليست جميعها من القوى التي تملك القدرات العسكرية التي تملأ فراغا، سواء في إقليمها، أو خارج إقليمها، سواء من حيث الرغبة بالنسبة للصين، أو من حيث الإمكانيات والقدرات العسكرية بالنسبة لإيران.
فالصين لم تقدم نفسها دوليا بصورة عسكرية تملأ فراغا استراتيجيا في أي بقعة من بقاع الأرض، بما فيها شرق آسيا، وإيران ليست قوة إقليمية كبيرة بموازين القوى العسكرية، فهي تأتي بعد مصر وتركيا وإسرائيل بمراحل عديدة في موازين القوى العسكرية الدولية.
ثالثا: تصريح الرئيس الأمريكي يقدم اعترافا مجانيا لإيران بأنها “قوة دولية” تنافس الولايات المتحدة في ملء الفراغ المزعوم في منطقة الشرق الأوسط.
والحقيقة أن القوة العسكرية الإقليمية لإيران هي قوة عصابات ومليشيات، دورها خلق الفراغ، وليس ملء الفراغ، وهدفها تفكيك الدول من خلال حروب أهلية طائفية، سواء في العراق أو اليمن أو لبنان، وهذا الدور لا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال دورا إقليميا لدولة، بل هو تمدد وتوسع لمليشيات غير قادرة لا على بناء دولة، كما الحال في العراق، ولا على قيادة دولة، كما الحال في اليمن.
رابعا: التقطت القيادة الإيرانية الرسالة الأمريكية بصورة سريعة ومباشرة، وبدأت تقدم نفسها على قدم المساواة مع الصين وروسيا، وتطرح نفسها على اعتبار أنها “ثالث ثلاثة” سوف يقودون التغيير في النظام العالمي، ففي ختام القمة السابعة للدول الضامنة لمسار “أستانا” للأزمة السورية، والمنعقدة في طهران يوم 19 يوليو 2022 وضمت روسيا وتركيا وإيران، أكد مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية “علي أكبر ولايتي” أن إيران وروسيا والصين، باعتبارها تشكل “ترويكا صاعدا ومقتدرا”، تستطيع التصدي لنزعات أمريكا والغرب التوسعية.
وأكد “ولايتي” أن هناك بُلدانا، ومنها الهند والصين وروسيا، حققت نهضة اقتصادية وعلمية وتقنية كبرى، ما يستدعي الاستدارة نحوها لمواكبة هذا التقدم.
وأضاف أن إيران -باعتبارها واحدة من الدول القلائل التي أعلنت صراحة معارضتها لأمريكا وسياساتها- رسخت علاقات بناءة وناجحة مع دول مختلفة، بما فيها قوى الشرق الصاعدة مثل روسيا والصين.
ورغم أن الاجتماع، الذي تحدث فيه “ولايتي” بهذا الكلام العجيب لم يضم الصين، فإنه استخدم تصريح الرئيس الأمريكي ليقدم إيران كقوة دولية على قدم المساواة مع روسيا والصين.
وهنا نعيد السؤال: هل كان حديث الرئيس الأمريكي عن “الفراغ الاستراتيجي” وصفًا لواقع ورسالة طمأنة لدول المنطقة أم أنه رسالة تحفيز وتشجيع لإيران لتتحرك لملء “الفراغ” بوسائلها المعهودة في العراق واليمن ولبنان؟