سياسة

بريطانيا.. الْمَلَكيَّة الجديدة

بهاء العوام


مع تولي الملك تشارلز الثالث العرش، دخلت المملكة المتحدة العهد السادس في ظل “الملكية الدستورية”، التي ترسخت في زمن الملكة فكتوريا قبل أكثر من مائة وعشرين عاما.

ثمة كثير من التحديات، التي تنتظر الملك الجديد في الداخل والخارج.. خاصة وأنه يرث ملكةً حظيت بكل احترام وتقدير من قِبل سكان دولتها والعالم عامة.

الملكية، التي ورثها تشارلز الثالث، أفرزتها تسعمائة سنة حافلة بالنزاعات بين الشعب والأسرة الملكية.. بدأ الأمر في عام 1100 عندما أصدر هنري الأول ميثاق الحريات، الذي التزم فيه ببعض القوانين المتعلقة بمعاملة المسؤولين في الكنيسة والنبلاء، وانتهى عندما تحولت الملكية إلى ما تصفه كتب التاريخ بـ”الجمهورية السرية”.

في عهد إليزابيث الثانية واجهت الأسرة الملكية البريطانية اختبارَين حقيقيين. الأول بعد تتويج الملكة مباشرة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. والثاني بعد وفاة الأميرة ديانا، طليقة الملك الجديد وأم أولاده، عام 1997.

وفي كلا الاختبارين نجحت الملكة الراحلة بكفاءة كبيرة في ترسيخ حضورها وعائلتها في قلوب الناس.

بعد وصول الملكة إليزابيث الثانية إلى العرش تفككت الإمبراطورية البريطانية وحصلت الدول “المستعمَرات” على استقلالها. ولكن مجموعة كبيرة من هذه الدول بقيت متصلة ببعضها عبر منظمة الكومنولث. وما فعلته الملكة هو أنها حوّلت هذه المنظمة إلى شبكة واسعة وهامة من العلاقات الدبلوماسية التي يتمسك بها الأعضاء.

ما قدمته الملكة لمنظمة الكومنولث عزّز النظرة الإيجابية تجاه الملكيّة في الداخل البريطاني.. ولكنه لم يكن كافيا لانتزاع ولاء الناس بعيدا عن القوانين والدستور.. فلجأت الملكة الراحلة إلى فتح أبواب القلاع والقصور أمام وسائل الإعلام، وبات البريطانيون يدركون أن العائلة الملكية تشبه أي عائلة مكونة من أب وأم وأولاد وأحفاد.

جعلت الملكة أفراد الأسرة الملكية أكثر تفاعلا وانفتاحا على الناس، فأحبهم البريطانيون وباتوا يتابعون أنشطتهم ويرغبون في مزيد من مشاركتهم في الحياة العامة.

وبقي الحال على هذا حتى وقعت وفاة الأميرة ديانا في حادث السير الذي قتلها في فرنسا. ولكن الملكة مرة أخرى احتضنت شعبها واحتوت الموقف.

لم تخالف الملكة الراحلة واجباتها الملكية يوما، ولم تتجاوز حقوقها الدستورية. كما أنها لم تقبل في يوم من الأيام أن يكون أفراد العائلة الملكية فوق القانون، أو أكثر أهمية من غيرهم في دول المملكة المتحدة الأربع.

ولأنها فعلت هذا يبكيها الملايين اليوم، ويحترم تاريخها حتى الذين عارضوا الملكية في الدول التابعة للتاج البريطاني.

الملك تشارلز الثالث يواجه اليوم تحديا كبيرا يتمثل في حماية إرث والدته شعبيا ودبلوماسيا. وهو يدرك أهمية المضي على نهج الملكة الراحلة في التعامل مع الدستور والناس، وحتى حل المشكلات داخل الأسرة الملكية.

لقد أمضى الملك عقودًا إلى جانب أمه كوليّ للعهد. وهو ناضج سنّيا بما فيه الكفاية ليحمل مسؤولية العرش.

لن يحمل الانتقال من الأم إلى الابن أي عثرات لأن الإطار الدستوري يوضح العلاقة جيدا بين الملك والدولة، شعبا ومؤسسات.. كما أن الملك تشارلز الثالث هو رئيس منظمة الكومنولث منذ عام 2018.. ويمتلك علاقات جيدة مع جميع زعماء ومسؤولي هذه الدول، التي لا تجد ضررا في استمرار ارتباطها بالمنظمة واتفاقياتها وميزاتها.

بعض الدول التابعة للتاج البريطاني حول العالم تريد التحول إلى النظام الجمهوري، ولكنها لا تستعجل ذلك، ولا تريده نقمة على الملك.. ذلك لأن رئاسة تشارلز الثالث لهذه الدول رمزية، ولا تؤثر في الحكم، ولا في سياسات الحكومة وقرارات البرلمان.. وبالتالي لا تشكّل الملكية أصلا مادة للنزاع الانتخابي بين الأحزاب السياسية.

الملك الجديد منح الدول التابعة للتاج البريطاني حرية التعامل مع الحضور الملكي.. فهو يراهن على عقود طويلة من العلاقات المتينة والراسخة بين هذه الدول والمملكة المتحدة تحت مظلة منظمة الكومنولث وخارجها.. ويراهن أيضا على استمراره على نهج والدته في تقديم كل الدعم لأسرة المنظمة التي تجمع أكثر من 1.7 مليار نسمة.

ترتيب البيت الملكي قد يكون أيضا من التحديات التي تنتظر الملك الجديد.. فربما يعود الأمير أندرو، شقيق الملك، للمطالبة بامتيازاته الملكية التي جردته منها الملكة الراحلة على خلفية “قضية جوفري”. كما يمكن أن يوجه الأمير هاري وزوجته الأمريكية ميجان ماركل، مزيدًا من الانتقادات للأسرة الملكية.

الملك تشارلز الثالث تعلّم من والدته الصرامة في التعامل مع الواجبات الملكية.. والحرص على عدم تجاوز أفراد العائلة “الأخلاقيات” التي غرستها فيهم الملكة إليزابيث الثانية، وعرفهم بها البريطانيون خلال سنوات طويلة.. كما يدرك أن التساهل في هذا الأمر يتبعه “قلق” كبير قد تثيره وسائل الإعلام المختلفة، وخاصة الصفراء منها.

فوق كل هذا سيجد الملك نفسه في تحدٍّ مع ضبط اهتماماته ومواقفه وآرائه على مقياس الملوك وليس أولياء العهود.. فالملك يتمتع بهامش أقل من ولي العهد في المكاشفة والحديث عن أفكاره وقناعاته الخاصة.. والحقوق التي منحها الإطار الدستوري للملك تضع عليه بالمقابل التزامات عدة إزاء توجهات الحكومة والبرلمان في وضع السياسات.

للملك وفق القوانين والأعراف المتناقلة عبر نحو مائة وخمسين عاما، ثلاثة حقوق على السلطة التنفيذية، أولها الحق في أن يُستشار، وثانيها الحق على التشجيع، وثالثها الحق في التحذير.. ولكن أيا من هذه الحقوق الثلاثة لا يمنحه السلطة للتدخل في توجيه الحكومة نحو إجراء معين، حتى ولو كان قرارها يعارض رغبته ولا يتفق مع رؤيته.

في حياة وموت الملكة الراحلة عاش البريطانيون لحظاتٍ وأحداثا تاريخية.. والملك القادم بعد 70 عاما من ولاية العهد يعرف كيف بلغت والدته هذه الشعبية الداخلية والعالمية.

لن يكفي تشارلز الثالث طبع صورته على الأوراق المالية، ووضع اسمه على الأختام الرسمية، ليحفظ إرث إليزابيث الثانية، أو ينعم بحضور أو غياب مشابه لها.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى