سياسة

الإصلاح وإرادة التغيير… نحو دولة القانون والمؤسسات


حتى نستوعب ما يحدث في السعودية من متغيرات وتحولات وقرارات، علينا ألا نربطها بالتوقيت أو طبيعة المرحلة أو جاهزية المجتمع للقبول والمواءمة، بل إن المسألة تجاوزت كل ذلك بكثير كونها لم تعد ترفاً بقدر ما أنها تتعلق بضرورات الدولة والمجتمع. بعبارة أخرى الأمر يتعلق برؤية استراتيجية لصانع القرار الذي يسير بها وفق جدول زمني لتحقيق أهداف ومصالح وتطلعات شعبه بدءاً بترسيخ دولة مدنية انطلقت خطواتها المتسارعة منذ تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، على اعتبار أن الإصلاح والتطوير حاجتان ملحتان تقتضيهما متطلبات الحياة اليوم من أجل المرور إلى موقع أفضل ضمن السياق الإنساني والاجتماعي.
كلما تعلق الأمر بالسعودية، وجدت مدحاً ممجوجاً أو نقداً مقذعاً، وما نطمح إليه هو الحياد النسبي ونقل الواقع كما هو بلا رتوش، ولذا فنظرة المحايد ترى أن ما تقوم به السعودية يثير التأمل والدراسة والإعجاب. السعودية اليوم وما تعيشه يكرس واقعاً جديداً وأنها على مسار الإصلاح والمعالجات الجذرية وتسمية الأشياء بأسمائها. الدول لا يمكن لها أن تنشأ وتنمو وتبقى من دون رؤية حضارية وعصرية وحداثة فكر وسلوك؛ لأن مضامينها هي التي تحدد تقدم المجتمعات أو تأخرها. السعودية اتهمت بانغلاقها في مراحل سابقة ودفعت ضريبة تأثرها بالفكر الصحوي، ولكنها استطاعت وفي لحظة تاريخية وفي عهد الملك سلمان أن تقفز وتفك إسارها لتلحق بركب التقدم والتطور وتتناغم مع الجديد ليصبح هو مناخها الذي تعيشه اليوم.
ومما يدلل على التحول المذهل في التفكير والتخطيط واتخاذ القرار، هو في التعاطي مع معالجة مواضيع لها أهمية وحساسية اجتماعية؛ فعلى سبيل المثال «أعد قبل سنوات ما عرف باسم مشروع مدونة الأحكام القضائية»، واتضح بعد الدراسة – كما قال ولي العهد – أنها «لا تفي باحتياجات المجتمع وتطلعاته، ولذا رئي إعداد مشروعات لأربعة أنظمة، وهي مشروع نظام الأحوال الشخصية، ومشروع نظام المعاملات المدنية، ومشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ومشروع نظام الإثبات، مع الأخذ فيها بأحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية الحديثة، بما لا يتعارض مع الأحكام الشرعية، ويراعي التزامات المملكة فيما يخص المواثيق والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها». في تقديري هذه قرارات تاريخية وشجاعة وغير مسبوقة وما كان لها أن تنطلق وتسير في وتيرتها وترتيباتها الإجرائية لولا دعم الأمير محمد ووقوفه خلفها.
واضح عزم السعودية على تطوير جهازها القضائي وتطوير البيئة العدلية واستحداث وإصلاح القوانين التي قال عنها ولي العهد إنها «تحفظ الحقوق وترسخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقق التنمية الشاملة، وتعزز تنافسية المملكة عالمياً من خلال مرجعيات مؤسسية إجرائية وموضوعية واضحة ومحددة».
لا شك أنها خطوات في الاتجاه الصحيح ومواكبة للمفهوم العولمي، وهذا يجعل السعودية في مقام الدولة العصرية الحديثة مستفيدة من تراكمها المعرفي ومن تجارب الآخرين. المختص يعلم حجم هذه القوانين وأبعادها وتأثيرها وتبعاتها وانعكاساتها الإيجابية الكبيرة على المجتمع اجتماعياً وحقوقياً واقتصادياً، وبحكم دراستي الجامعية والعليا في القانون وكذلك عضويتي في النيابة العامة وهيئة حقوق الإنسان ومجلس الشورى، أستطيع القول إن بلادي كانت بحاجة إلى إعداد ودراسة هذه التشريعات ليصار إلى تنفيذها كونها تغلق ثغرات كبيرة وتدفع باتجاه تكريس مفهوم دولة المؤسسات والقانون.
كانت هناك إشكالية تباين الأحكام القضائية وطول فترات التقاضي وعدم وجود إطار قانوني واضح للأفراد وقطاع الأعمال في بناء التزاماتهم، ولكن عندما تصدر هذه القوانين سيكون كل ذلك من الماضي لأنه كما قال ولي العهد إنها ستساهم في «الحد من الفردية في إصدار الأحكام ورفع مستوى النزاهة وكفاءة أداء الأجهزة العدلية وزيادة موثوقية الإجراءات وآليات الرقابة».
هذه قوانين مهمة تحمي حقوق الإنسان وتغلق باب التباين والاجتهاد في الأحكام التعزيرية، فنص التجريم لا يكون إلا بمادة موجودة في قانون العقوبات وتكون العقوبة محصورة في الفعل المنصوص عليه، ودور المحكمة فقط هو في تطبيق نص القانون. الحقيقة وجود قانون للعقوبات التعزيرية حيث لا عقوبة إلا بنص يعني مرحلة متقدمة في تعزيز العدالة الجنائية ويرسخ الضمانات القضائية ويتسق مع القواعد القانونية والمبادئ القضائية العالمية. كما أن مشروع الأحوال الشخصية يعزز تمكين المرأة وحقوقها وكذلك حقوق الطفل ويحدد السن الأدنى للزواج ما يعني غلق باب زواج القاصرات الذي كان يمارس في سنوات ماضية. سيسجل التاريخ بماء الذهب لمن أقدم على اتخاذ هذه القرارات الشجاعة والتي تصب في حفظ كرامة الإنسان.
بلادنا وهي في حركتها الدائبة تواجه تحديات، وقد قام ولي العهد بغربلة أجهزة الدولة وأحدث ثورة إدارية وهيكلية وتم التركيز على القطاعات الاقتصادية والاستثمارية والتنموية واليوم أخذت البيئة التشريعية مساحتها من الإصلاح والتطوير. التوجه الجديد للدولة إصلاحي والإرادة السياسية عازمة على المضي به.. وهكذا تدار الدول وتحكم حيث التخطيط السليم لحياة طبيعية. أغلب المتفائلين ومن مضت بهم التخيلات لم يدُر بخلدهم أو يخطر على بالهم أن يدركوا هذه الإصلاحات والتحولات في حياتهم والتي كانت شيئاً من الأحلام والخيالات.

نقلا عن الشرق الأوسط

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى