الاشتباكات المحدودة التي تفجرت بين تشكيلات عسكرية يتبع بعضها للدبيبة وأخرى باشاغا، بدت كمحاولات استعراض وجس نبض نفذتها على الأرض في ضواحي العاصمة الليبية، طرابلس.
لكن لا يمكن التقليل من مضامينها ودلالاتها وانعكاساتها على مجمل الواقع الليبي المتأزم، وبناء على ذلك يمكن قراءتها من جانبين، الأول باعتبارها رسائل متبادلة بين خصوم، والتلويح بأن خيار المواجهة العسكرية لم يُشطَب بعدُ من خيارات الوصول إلى الأهداف السياسية التي يبتغيها كل طرف، أما القراءة المقابلة فتتوقف عند اختبار الإرادات بينهما، حيث يتمسك كل طرف بأحقيته في السلطة، وكل منهما يقدم الحجج والبراهين تعزيزًا لمبتغاه.
في هذه الجولة من الصراع السياسي بين القوى الليبية وتطوره في بعض الجولات إلى المواجهات الميدانية، برزت ثلاث وقائع تحمل في طياتها إشارات غير إيجابية لا تصب في خانة نزع فتيل التوتر والتصعيد السائد سياسيا وميدانيا.
أولى هذه الوقائع الانقسام الداخلي حول تعيين المبعوث الأممي الجديد، الأمر الذي يشكل عنصر تعقيد لمهمته المرتقبة، وثانيها غياب المبادرات الدبلوماسية الإقليمية والدولية لتطويق تداعيات المواجهة والحد من إمكانية توسعها والعمل على درء مخاطر ذلك على مجمل البلاد والعباد، خاصة في ظل الانقسامات والتقلبات والتناقضات الحزبية والعسكرية والسياسية، أما ثالثها فربما يكون الأكثر إثارة لقلق الليبيين، ويتمثل في عودة النزعات الجهوية والمناطقية للظهور بفعل تبدل الولاءات الذي تشهده البلاد، وعودة بروز خطوط التماس بين بعض المناطق على خلفية الصراع القائم.
كلما اعتقد المرء بأن السفينة الليبية وصلت إلى شاطئ الأمان أو كادت، سرعان ما تتشظّى وتنقسم الأطراف الفاعلة على مسرح الحدث الليبي بشقيه السياسي والعسكري، ويتم نسف الأسس التي بُنيت عليها مراحل سابقة من التفاهمات، فيعود المشهد الليبي إلى مربعه الأول وكأنه لم يغادره أساسا.
اللافت أن العنوان الذي ينسحب على مجمل المشهد هو التقلبات والانقلابات والتصدعات التي تضرب الأجسام السياسية والعسكرية والحزبية إبان كل عاصفة تهب على البلاد من جهة داخلية أو تيار ما.
المبادرات الدولية والعربية والجهود الدبلوماسية الحثيثة، التي رافقت مسارات العملية السياسية في ليبيا منذ أكثر من أربع سنوات، أفلحت في دفع عجلة الخيار السياسي بين القوى الحزبية والتيارات السياسية وحتى التشكيلات العسكرية متعددة الولاءات، إلى كلمة سواء، بلورت خصائص محددة للعملية السياسية، ووفرت حاضنتها الدستورية، ومارست ضغوطا تتناسب مع معطيات الواقع الليبي الاجتماعي والسياسي انطلاقا من محرّضين، الأول وعي المؤسسة العربية الرسمية بأهمية دورها في ضبط الساعة الليبية على توقيت الحاضنة العربية أولا، وقطع الطريق على محاولات بعض القوى الإقليمية لتحويل ليبيا إلى قاعدة انطلاق لنفوذها في الشمال الأفريقي العربي والاستحواذ على مقدرات الشعب الليبي تاليا، في حين تجلى المحرض الآخر من خلال القناعة الدولية عموما والأوروبية بشكل خاص، بأن استقرار ليبيا السياسي والأمني عامل ضروري من عوامل استقرار القارة الأوروبية المتشاطئة معها.
كثافة الجهود التي بُذلت عربيا ودوليا من أجل تجاوز ليبيا أزماتها المتعددة أثبتت أن الإرادة الذاتية والوطنية للقوى والتيارات والزعامات الليبية هي المعيار الأساسي الصالح للبناء عليه بما يعود على الجميع بالاستقرار والسلام والازدهار، وأن جميع النيات الخارجية المخلصة لا يمكنها أن تتحول إلى فعل ملموس على أرض الواقع إن لم تجد حواضن لها في الداخل أكثر إخلاصا وإيمانا بانتماءاتها الوطنية وتغليبا لمصالح الليبيين، سيادة واستقلالا واقتصادا، وتقديمها على سواها من النزعات الخاصة.
ما يحدث على المسرح الليبي أقرب إلى “الاستعصاء” منه إلى “الانسداد” السياسي.
الشروط والشروط المضادة التي يطرحها كل من “الدبيبة” و”باشاغا” وبإسناد تشكيلات عسكرية وسياسية لكل منهما، ودعم برلماني منقسم أيضا، من شأنه إطالة أمد الأزمة وحقنها بتعقيدات وتوترات إضافية في حال بقي الطرفان ومن يدعمهما متمترسا خلف خطوطه باعتبارها مقدسات لا يجوز المساس بها.
العودة إلى الحوار بين الأطراف المتنازعة سبيل لا مفر منه رغم قتامة المشهد الناشئ. اختبر الليبيون على مختلف انتماءاتهم ومناطقهم وشرائحهم ويلات الحرب وآثارها المأساوية على الجميع واكتشفوا، وهُم على دروب ويلاتها، أن الأطماع الخارجية، مثلها مثل النزعات الداخلية المضادة للإجماع الوطني، لا تأبه بمصالح وحقوق الناس.
المناخ السائد في ليبيا يوحي بأن الوضع مرشح للتصعيد ويزداد خطورة يوما بعد آخر، لكنّ إمكانية التأسيس مجددا لحوار سياسي يستكمل محطاته السابقة استنادا إلى ما راكمته العملية السياسية في وقت غير بعيد، لا تزال متاحة.. إنه الامتحان الفعلي لجميع الأطراف الليبية لكي تثبت إما أنها قادرة على تجاوز أصعب المخاضات عُسرا، وإما أنها لا تتمتع بالإرادة المطلوبة لتجنيب ليبيا والليبيين مزيدا من الانقسامات والمتاعب.
