سياسة

درس “عن بُعد”.. لنخرجْ عن المألوف!

سارة البخشونجي


لا شك أن التعليم هو أساس كل شيء للمجتمع والأفراد. وابتكار طرق تعليم جديدة ما هو إلا نتاج للحاجة الملحة إلى التعلم المستمر وتكييف طرق التعلم مع مستجدات الحياة.

 

قضيت ما يقرب من 16 عامًا في التعليم التقليدي. أتوجه إلى المدرسة ومراكز الدروس. كنت أسمع عن فكرة التعليم عن بُعد فقط في برامج التلفاز كتجربة مطبقة في بعض الدول الأجنبية. وكنت لا أعتبر في هذه الطريقة وأرفضها لأنها تناقض ما اعتدتُ خلال سنوات دراستي. ولم تكن هذه الفكرة مطروحة بالطبع في بلدي -مصر- لذا لم أفكر فيها كثيرًا.

ثم تخرّجت في الجامعة وعملت في مجال الصحافة.

وجدت أنني بحاجة إلى تنمية مهارات اللغة الإنجليزية، فاتجهت للالتحاق بالدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وبالفعل سجلت اسمي بها وبدأت الدراسة من داخل الحرم الجامعي وجهًا لوجه مع أساتذتي. واستمر الأمر هكذا قرابة ستة أشهر، ثم جاءت جائحة كورونا لتُباعد المجتمعات والأفراد وتُلزم كل إنسان بيتَه.

تعطّلت الدراسة وتوقفت الحياة بشكل شبه كامل لمدة تقترب من عام.

أدركت الجامعة الأمريكية أن مسألة جائحة كورونا ستدوم طويلا وأنه يجب إيجاد حل لاستكمال الدراسة، فأرسلت لنا بريدًا إلكترونيا تُبلغنا فيه بأنها ستبدأ الفصل الدراسي المُقبل بنوع الدراسة عن بُعد، وذلك من خلال موقع إلكتروني تابع لها. وأرسلت لنا روابط لشرح كيفية التسجيل والدخول والدفع.

كان أول انطباع لي على هذا البريد هو رفض الفكرة بشكل قاطع: لن تلقى رواجًا بالتأكيد وسيُكتب لها الفشل.

فرفضت التسجيل في هذا “العبث”. كنت أرى الأمر مجرد “عبث”.

بعد ذلك بنحو شهرين أرسلت لنا الجامعة بريدا آخر فحواه أنه إذا لم نسجّل في دورات التعليم عن بُعد فسنُضطر بعد ذلك للرجوع إلى نقطة الصفر والتسجيل في امتحان جديد لتحديد المستوى.

بعد تفكير قررتُ أن أخوض التجربة وأسجّل لكي “أجرّب” ما هذا التعليم عن بُعد.. بما أننا في كل حال لا نستطيع الخروج من بيوتنا وقتها، وسنبقى في منازلنا فتراتٍ طويلة نتيجة ساعات الحظر.

سجّلت في الدورة التدريبية للغة الإنجليزية، وجاء ميعاد أول محاضرة، وأتذكر كم كانت غير منظمة وبها كثير من صدى الصوت المربك، وبدا أن المحاضِرة كانت تستخدم هذا النظام للمرة الأولى -ونحن كذلك- وكان الأمر فعلا “عبثيا” كما توقعت في البداية.. فتأكد انطباعي: “التعليم عن بُعد لن يستمر طويلا”.

أكملت الدورة التدريبية مضطرة على كل حال، بما أنني قد سجّلت ودفعت بالفعل، وتدريجيا أخذ الوضع يتحسّن.. بدأنا نعتاد الموقع وكيفية استخدامه.. وكانت الجامعة تطلب منا استطلاعات رأي حول ما نرغب في تعديله على الموقع ليصبح أكثر كفاءة وفعالية، وتستجيب لمطالبنا، فتحسّن الموقع كثيرًا وأصبح أكثر تنظيمًا.

“نَدَهَتْني النَّدَّاهة” كما يقولون. وأصبحت أسجّل في دورة بعد أخرى، وأصبح التعليم عن بُعد جزءا من يومي، وتحمَّست للاطلاع على مصادر أخرى للتعليم عن بُعد، لأكون من المسارعين للتسجيل فيه حسب مواعيدي المناسبة.

بعد فترة، أدركت ما يوفره هذا النوع من التعليم لنا: وقت وجهد وإمكانية تسجيل المحاضرات بالصوت والصورة.

لقد أصبح هناك كثير من مواقع التعليم عن بُعد تزوّد خاصية التعبيرات “الإيموجي” للتعبير عن حالة الطالب، وأيضًا إضافة خاصية “الاستئذان” عن طريق ضغط زر معين لرفع اليد، حتى لا يتحدث الجميع في الوقت ذاته، فأصبح التعليم عن بُعد تفاعليًّا بامتياز.

كما وفَّر ميزة أخرى مستحدثة للطلاب الأجانب وطلاب المحافظات البعيدة، التي كانت تفصلها المسافات الطويلة عن الالتحاق بالدورات التدريبية، إذ صار بإمكانهم التسجيل وحضور الدورة التدريبية من أي مكان.. ولم تعد الجغرافيا عائقا للمعرفة.. ففي بعض الدورات، التي حضرتها كان معي بعض الطلاب من دولة السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة ولبنان.

أنا أيضًا صرتُ أحضر الدورات التدريبية من أي مكان، حتى لو كنت في وسائل مواصلات عامة، أو خلال فترات سفري عبر الهاتف المحمول.

وبعد أن خفَّفت الدول من الإجراءات الاحترازية الخاصة بجائحة كورونا، وظهور بعض اللقاحات المعتمدة، فتحت الجامعة الأمريكية أبوابها مرة أخرى لحضور الدورات التدريبية. مرة أخرى وجهًا لوجه مع أماكن الدراسة وأهل التدريس.

كنت أظن أنني سأسعد بهذا الخبر كثيرًا، إذ سنعود إلى طبيعتنا الحياتية، وكنت أظن أنني سأسارع بالحجز، ولكني فوجئت بأنني صرتُ أفضّل التعليم عن بُعد بكل ما يوفره لي من مميزات وتفاعل على العودة إلى طرق التعليم التقليدية.

لقد منحتنا جائحة كورونا ميزةً لم تكن على البال أو الخاطر، حيث فتحت لنا مجالا واسعًا لم نكن لنختاره من تلقاء أنفسنا، بسبب تمسكنا بما عرفنا وألِفنا.. أصبحنا نتساءل: لماذا لا نعطي أنفسنا فرصة لنجرب كل جديد؟.. ربما نجد فيه ضالّتنا ونفضله على عاداتنا القديمة.

مذ ذاك وأنا لا أرفض أن أجرب.. فربما أجد في الشيء الجديد ما لم أتوقع يومًا ويصبح هذا الجديد، الذي كان مرفوضا من قبل، أكثر الأشياء أهمية في حياتي.. لقد أصبحت أدعو كل متردد من معارفي وأصدقائي وأهلي في اتخاذ قرار ما في حياته للتجريب، كما أعتبر هذه الكتابة دعوة جديدة لأن نجرب ونخرج من أطر عاداتنا وكل مألوف لدينا.

 

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى