حدث هذا التحول بشكل مفاجئ، إذ كانت المفاوضات التي بدأت علنًا في مارس 2021 قد توقفت في أبريل الماضي.
ومع استئناف التفاوض مطلع شهر أغسطس الحالي، بدأت التلميحات تتسارع إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق في خلال فترة لا تزيد على أسابيع من الآن.
يُفهم من هذا التطور أن الصيغة المبدئية للاتفاق كانت شبه جاهزة من خلال جولات المفاوضات السابقة.. وأن عدم تطوير التفاهم حوّلها إلى اتفاق فعلي لا يرتبط بعوامل فنية أو قانونية خاصة بمضمون أو صيغة الاتفاق، بقدر ما يرجع إلى حسابات خاصة بالطرفين الرئيسين وهما: إيران والولايات المتحدة.. وهو ما تأكد من ردود فعل الجانبين على إعلان الاتحاد الأوروبي أنه قدّم إليهما بالفعل صيغة اتفاق نهائي.
يشترك الطرفان الأمريكي والإيراني في غموض موقفيهما، فهما يرحبان بالاتفاق من حيث المبدأ، لكن دون تأكيد موافقة نهائية على المقترح الأوروبي.. وهو ما يدعونا إلى التأكيد أن المفاوضات النووية ليست محكومة باعتبارات تقنية نووية فقط.. فالجوانب السياسية والاقتصادية متداخلة معها بشكل جذري.. بل إن أقل الجوانب تعقيدًا وصعوبة هو الجانب النووي نفسه، حيث من السهل تحديد متطلبات والتزامات كل طرف.
الجوانب غير التقنية بمثابة “لعبة الشطرنج”، تعتمد على التوقعات والتوقعات المضادة، وترتبط بالتفاعل بين حسابات الأطراف.
وفي القضايا الخاصة بالسلاح النووي فإن السياسة هي البداية وهي النهاية، فالدول تمتلك قدرات نووية عسكرية لا لتستخدمها، وإنما لتوظيفها وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وفرض نفوذها في مناطق أمنها ونطاقات مصالحها.
وكما أن القدرات النووية تنعكس مباشرة على التموضع السياسي للدولة، فإن المعطيات السياسية تفرض أجندتها على الدول المرشحة نوويًّا.
في الحالة الإيرانية، على سبيل المثال، من صالح إدارة بايدن وطهران معًا أن يتوصلا إلى اتفاق قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل.. فالانخفاض المتتالي في شعبية بايدن يدفع إدارته إلى البحث عن إنجاز لتسويقه.. ويبقى الدافع الأكثر أهمية، هو أن طهران باتت قريبة فعليًّا من امتلاك قدرات نووية غير سلمية.. ما يعني أن التأخير في توقيع اتفاق أو إضاعة أي وقت من جانب واشنطن قد يعني بالنسبة للأمريكيين، وللعالم، فوات الأوان وعدم توقيعه أبدًا.
على الجانب الآخر، تواجه إيران أعباء متزايدة جراء العقوبات الأمريكية وتتطلع بشدة إلى تحسين أوضاعها الاقتصادية بموجب الاتفاق الجديد.. غير أن ذلك الاتفاق سيمثل اختراقًا جيواستراتيجيًا هي في أمسّ الحاجة إليه لمواجهة الموقف الإقليمي ضد تحركاتها التوسعية وتدخلاتها المزعجة بواسطة وكلائها وأذرعها المنتشرة في عدد من دول المنطقة.
إن البيئة الدولية تمثل في حد ذاتها فرصة كبيرة لإيران، حيث جاءت الأزمة الأوكرانية لتضع العالم كله في مأزق “الطاقة والغذاء”.. وبصفتها دولة منتجة للطاقة، تريد طهران أن تستفيد من “حالة الندرة” وارتفاع الأسعار التي نجمت عن الأزمة.
واقعيًّا، واشنطن على استعداد لتوقيع اتفاق حالا، بينما طهران هي التي تتمنَّع وتُبطئ الخطوة.. وكعادتها تمارس لعبة “الصبر الاستراتيجي” لتعظيم مكاسبها التفاوضية إلى أقصى حد.. وتراهن على رغبة إدارة بايدن في إنجاز الاتفاق بالضبط كما كان الوضع أثناء التفاوض على الاتفاق السابق مع إدارة أوباما 2015.. وهي حاليًّا -إيران- في موقف أقوى بعد أن استغلت الأعوام الأربعة التي مرت بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق في استئناف متسارع للأنشطة النووية، والاقتراب جدًّا من امتلاك سلاح نووي.
إن حالة التردد الأمريكي في التعامل مع إيران منذ 2015 وما تبعه من عدم الوضوح في العديد من الملفات، ومنها ما يتعلق بتخفيف العقوبات عما يسمى “الحرس الثوري الإيراني” تسببت في تقوية إيران في موقفها التفاوضي، مع جعلها تقبل بالمقترح الأوروبي الذي يبدو أن أفكاره تخدم إيران.
وفي ظل وجود مؤشرات حول التوصل إلى الاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران قريبًا، يبقى السؤال: ماذا ينبغي على دول العالم ومنطقة الشرق الأوسط القيام به في مرحلة ما بعد الاتفاق؟!