“كورونا” بين نموذجين
في الصحة، كما في السياسة، تقدم منطقة الشرق الأوسط نموذجين متناقضين في التعامل مع قضايا المنطقة المهمة؛ نموذج الاعتدال والعناية بالشعوب ومصالحها، وتمثله السعودية ودول الخليج، ونموذج التطرف الطائفي والإرهابي، ويمثله النظام الإيراني، وما التعامل مع كورونا إلا امتدادٌ طبيعي لهذا السياق السائد.
كانت السعودية من أكثر الدول حرصاً على حماية مواطنيها والمقيمين فيها وزوارها من شرور هذا الفيروس الخطير، وقامت بقراراتٍ شجاعة وتاريخية تظهر كيف يكون حرص الدول على شعوبها، فأمرت بإغلاق الحرمين ومنع العمرة بفتاوى شرعية، حماية للمسلمين المعتمرين، ومنعت الزيارات السياحية من الدول التي ينتشر فيها الفيروس، وأظهرت غاية العناية بمواطنيها المنتسبين للمذهب الشيعي الكريم، الذين زاروا إيران سراً، وقررت العفو عنهم جميعاً، بمجرد اتصالهم بالجهات المعنية، وتلقي العلاج المناسب، أو الدخول في الحجر الصحي، حماية لهم ولعائلاتهم وذويهم، مع التشديد على العقوبات على كل مَن يسافر لإيران، بسبب الخلافات السياسية العميقة مع النظام الإيراني.
أما الإمارات، فقامت بقرارٍ تاريخي بإغلاق المدارس، وتقديم عطلة الربيع، وأكدت على عدم العودة قبل أقل من شهرٍ، وهي لم تكتفِ بمعالجة مواطنيها ومقيميها والقادمين إليها، بل جلبت رعايا الدول الشقيقة والصديقة من الصين، بعدما تقطعت بهم السبل، وأعلنت عن تكفلها برعايتهم ومعالجتهم والاطمئنان على صحتهم، ومن ثم نقلهم إلى بلدانهم بعد التأكد التام من سلامتهم.
في البحرين والكويت وعمان استقبال لكل المواطنين القادمين من إيران وغيرها من الدول، التي ينتشر فيها الفيروس، وتقديم أرقى الخدمات الصحية، وأفضل حجر صحي يضمن علاجهم ورعايتهم وحمايتهم، وحماية أقاربهم وأصدقائهم من أي انتشارٍ للفيروس.
بالمقابل، قدَّمت إيران نموذجاً خطيراً لا على الشعب الإيراني فحسب، بل على كل الدول المجاورة وعلى العالم بأسره، بتعاملها غير المسؤول مع فيروس يمثل وباء عالمياً، وأصبحت بالتالي واحدة من أخطر البؤر التي تحتضن وتنشر هذا الفيروس، وقد أجرم النظام الإيراني في الدول التي يسيطر عليها في العراق وسوريا ولبنان، بنشر هذا الوباء في تلك البلدان التي يزور بعض مواطنيها إيران.
كما ارتكبت جرائم في حق زوارها من دول الخليج لأسباب دينية، حيث لم تحمهم من خطر الفيروس، ولم تحذرهم، وهو ما أشار له البيان السعودي الذي أدان استقبال إيران لمواطنين سعوديين من دون الختم على جوازات سفرهم، وأكثر المتضررين من سلوك النظام الإيراني هو الشعب الإيراني المغلوب على أمره، بحيث صمت النظام وأنكر، قبل أن يُضطَر للاعتراف، بعدما فتك الفيروس بالشعب الإيراني، وأصاب الآلاف وقتل المئات.
شتان ما بين النموذجين، ولئن ظلَّ النظام الإيراني يناور في المواقف السياسية معتمداً على تصعيد الصراع الطائفي ودعم الحركات الأصولية والإرهابية، فإن فيروس «كورونا» قد فضح هذا النظام بشكلٍ غير مسبوق، وأظهر كم هو خطير على شعبه وعلى العالم أجمع.
لم تزل السعودية من أقل دول العالم تأثراً بهذا الفيروس المستجد من «كورونا»، نظراً لسرعة القرارات الحاسمة في مواجهة هذه الأزمة العالمية على جميع الصعد، على العكس تماماً من إيران التي لم تُعِرْ أي اهتمام لا لمواطنيها ولا لمسؤوليها الذين فتك بهم المرض، ومقاطع الفيديو والصور القادمة من هناك تحكي حجم الفجيعة والجريمة التي يمكن أن يرتكبها نظام سياسي ضد شعبه.
وأقبح من هذا استغلال مواطني بعض الدول الذين يأتون إليها لأسباب دينية ومذهبية، كي تعيدهم لبلدانهم قنابل بيولوجية يقتلون أبناءهم وأسرهم ومحيطهم الاجتماعي، وهو عملٌ وإنْ لم يكن مقصوداً، فإنَّه من الإهمال الذي يصل إلى حدِّ الإجرام.
ما فعلته السعودية ودول الخليج تجاه هذه الأزمة العالمية والخطر الداهم هو مدعاة للفخر بالدين والأخلاق والإنسانية، ومن أخطأ يعاقب بالقوانين، لا بتركه فريسة للموت والطاعون.
إرث التسامح الطائفي راسخ في دول الخليج العربي منذ بدء الإسلام، لولا فترات من التاريخ مرّت بظروفها ومعطياتها على كل العالم الإسلامي، وتجاوزها التاريخ والدول والشعوب، وإيران كانت كذلك أيضاً باستثناء النظام الإيراني الذي اختار منذ أربعين عاماً أن يعيش في الماضي، ويستحضر أسوأ ما فيه ليجعله واقعاً.
تعقد أغلب دول الخليج مؤتمراتٍ يومية لوزارات الصحة أو تصدر بياناتٍ مفصلة، وذلك لنشر الطمأنينة وقطع دابر الشائعات، عبر توفير المعلومات الصحيحة ونشر الإرشادات الطبية السليمة، حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم، وما يواجهون من خطر هذا الفيروس، وأفضل طرق الوقاية منه.
هذه الأدواء والأوبئة تضرب كل بني البشر منذ أقدم العصور إلى يوم الناس هذا، لم تنجُ منها أمة من الأمم، ولا أتباع دين من الأديان، ولم تُصِب عرقاً دون غيره، فهي بحق لا تعرف التفريق في ضررها بين الناس على أي نوعٍ من أنواع العنصرية، ومن يدعون ذلك بأي صفة، فهم متخلفون عن ركب الحضارة البشرية، ويعيشون في الجهل المطبق والماضي السحيق مهما حاولوا التبرير.
بقدر ما إن المقاطع القادمة من إيران تقطع القلوب على بشرٍ يموتون في الشوارع بلا رعاية، فإن بعض المقاطع التي تخرج من الحجر الصحي في دول الخليج تظهر العناية الفائقة صحياً ونفسياً، وتوفير البيئة الآمنة والمساعدة على شفاء المرضى بأقل قدر من الألم أو الوحدة.
دول الخليج دولٌ غنية، وغناها يذهب مباشرة لمواطنيها والمقيمين على أرضها، وهو ما لا ينكره أحدٌ في العالم منذ ظهور النفط واكتشافه في النصف الأول من القرن الماضي، إلى مواجهة فيروس «كورنا» المستجد اليوم، ذلك أنها دولٌ ملكية ترعى شعوبها وتهتم بمصالحهم، وتعمل لبناء مستقبلهم، وهي ليست دولاً تقودها آيديولوجيات الإسلام السياسي، مثل إيران وتركيا وغيرهما من الدول الطائفية والأصولية.
أخيراً، فحفظ النفس أحد أهم مقاصد الشريعة ودلائله في المصادر الأصلية في الإسلام لا تُحصى، وبالتالي فكل ما يحفظ أنفس الناس وصحتهم وعافيتهم فهو مقدمٌ على كل ما سواه، وهو مع غيره من قواعد الفقه وأصول الدين ما لا يدع مجالاً للشك بأن كل ما يحمي الناس مقدمٌ على غيره، وهو ما صنعته السعودية بمنع العمرة، وما يدفع بعض الدول للتفكير في منع الجمعة والجماعة.
*نقلا عن الشرق الأوسط