سياسة

كازاخستان وحوار أتباع الأديان

إميل أمين


أضحى الحوار بين أتباع الأديان في حاضرات أيامنا أمرًا على درجة عالية من الأهمية.

لا سيما أن مجتمعات القرن الحادي والعشرين باتت مجتمعاتٍ تعدديةً، ولم تعد هناك جزُر منعزلة تحوي أناسًا من عقيدة واحدة، أو مذهب بعينه، ومن هنا تبدو عملية الحوار ضرورية للسلم الاجتماعي، وبهدف الانفتاح على الآخر المُغاير عقديًّا، ومن أجل حياة تتسم بالتعاون الإنساني المشترك والخلاق.

في هذا الإطار جاء مؤتمر “دور زعماء الأديان العالمية والتقليدية في التنمية الروحية والاجتماعية للبشرية في فترة ما بعد الجائحة”، والذي استضافته جمهورية كازاخستان في الفترة “14-15” سبتمبر/أيلول الجاري.

تحتضن كازاخستان مجموعات عرقية متنوعة، وأكثر من 200 جنسية من مختلف أنحاء العالم، وهي الجمهورية التي لا يتجاوز عدد سكانها 20 مليون نسمة، وقد عُرفت بثقافة التعايش، واكتسبت خبرة طويلة من الصراع مع الضغوطات الشيوعية في العهد السوفييتي، وقد نجحت في الحفاظ على فُسيفسائها النادر المتميز بأفكار التسامح والانفتاح والاحترام المتبادل والثقة بين الدولة والمجتمع.

جاء حوار كازاخستان ليجمع الأحِبَّة مرة جديدة، فرنسيس بابا الفاتيكان، أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، بالإضافة إلى نحو 100 وفد من 60 دولة تمثِّل جميع الأديان.

سلّط المؤتمر الضوء على جمهورية كانت بعيدة عن الأضواء طوال عقود، وكشف للعالم عن استراتيجيتها للتنمية، والتي تهدف إلى ضمان الحوار والتعاون بين الثقافات والأديان كركيزة أساسية للنظام الدولي، وإدراك القائمين على قيادة البلاد حاجة النظام الدولي الماسة إلى إصلاحات تهدف إلى قمع التهديدات والتحديات التي واجهها المجتمع البشري في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.

يلفت الانتباه في الدعوة الكازاخستانية لعقد المؤتمر، إلى الارتباط القائم بين حوار أتباع الأديان، وبين عالم ما بعد جائحة كوفيد-19، فقد أفرزت هذه التجربة الإنسانية المريرة قناعاتٍ بأن الضمانات البشرية الكثيرة، التي أحاطت بنا، كانت واهية، وأنه ما من فرد ولا جماعة قادرة على العيش بمفردها، وأن حال العالم بات كقارب لا بد أن يجذّف ركابُه معًا، هذا إذا رغبوا في النجاة، ففي زمن الوصل الجغرافي والديموغرافي لم يعد من الممكن بالمرة أن يحيا المرء بعيدًا عن أخيه، وربما هذا هو صُلب ما جاء في وثيقة الأخوة الإنسانية التي وُقعت على الأراضي الإماراتية في فبراير/شباط من عام 2019.

الذين تابعوا القراءة الأولية لأهداف المؤتمر، وقبل أن تُلقى الكلماتُ المهمة من الضيوف والوفود، أدركوا أن هناك نية صادقة حقيقية عند الداعين لترسيخ مفاهيم السلام والتعايش، والاحترام المتبادل والتسامح بين أتباع الأديان والأمم والجماعات العرقية، وكذا العمل على منع استخدام الدين لتصعيد النزاعات، وتعزيز تقاليد الحوار، وفتح باب التعاون مع جميع المنظمات الدولية، وحث وسائل الإعلام على أن تكون أداة للسلام والوئام بين جميع البشر، وبأكثر قدر تنمية لثقافة التسامح والاحترام المتبادل في مواجهة موجات الكراهية والتطرف، تلك التي بات عالمنا المعاصر يزخر بها.

في هذا السياق، ولأهمية الحدث، شاركت دولة الإمارات العربية المتحدة بوفود رفيعة المستوى من الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، واللجنة العليا للأخوة الإنسانية، وناقش المؤتمر وثيقة الأخوة الإنسانية، والتي باتت ركيزة أساسية في فعاليات الحوار والجوار حول العالم، من منطلق نشرها ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس.

في تعليقه على فعاليات المؤتمر، وزيارة البابا فرنسيس للمشاركة في هذا العمل الحواري الكبير والنافع، يعلّق رئيس أساقفة كازاخستان، المطران توماس برنارد بيتا، بالقول:

“مؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية ليس منبرًا للنقاش اللاهوتي والفقهي، وإنما يمكنه في تقديري أن يكون علامة تشير إلى الله كمصدر للسلام. إن جهود السياسيين، على الرغم من ضرورتها، تبقى غير كافية، هناك حاجة إلى صلاة وصلات قوية من المؤمنين وبينهم من أجل السلام العالمي المتراجع والمهزوم، وحرْصُ البابا فرنسيس على المشاركة حدث يعكس اهتمام الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بسلام العالم ورفاهية الشعوب جميعا”.

يتساءل البعض مؤخرًا: “هل من فائدة بعد لمثل تلك المؤتمرات الحوارية؟”.

تحمل علامة الاستفهام ملامح مريرة جراء الصراعات السياسية والعرقية، التي يحفل بها كوكبنا في العقدين الأخيرين بنوع خاص، ولعلّه على مقربة من كازاخستان تدور حرب ضروس بين روسيا وأوكرانيا، وكلاهما أصحاب توجه سلافي أرثوذكسي، ما يؤشر إلى عمق الصدع الحادث في النفس البشرية، والحاجة إلى تعميق الحوار كأداة لحل الصراعات، والإعلاء من شأن القيم الروحية الداعمة للسلام والماضية في اتجاه مُغاير للخصام.

كلمات القادة الروحيين في مؤتمر كازاخستان، وكما تبدّت من تصريحاتهم قبل أن تبدأ الفعاليات، ألقت الضوء على دور التربية والتنوير الديني في تعزيز التعايش القائم على الاحترام بين أتباع الأديان والثقافات المتباينة، عطفا على تعزيز مفاهيم العدالة، وإفشاء السلام في جنبات الكوكب الأزرق، والذي بات يئن تحت ضربات الحرب.

الحدث الفريد، الذي تستضيفه كازاخستان مرة كل ثلاثة أعوام، يقطع بأن الخير مفهوم أصيل في الإنسانية، وأن الشر دخيل، ما دام هناك مَن يعمل على مقاومة السلبيات من قبيل التطرف والإرهاب.

ولعله من الجديد والمفيد، أن يتم إيلاء شأن المرأة في العالم اهتماما في مثل هذه الحوارات المفيدة، فعلى جدول أعمال قمة كازاخستان جاءت قضايا إسهام المرأة في رفاهية المجتمع وتنميته المستدامة ودور الطوائف الدينية في دعم المكانة الاجتماعية للمرأة، من بين أهم القضايا التي جرى النقاش حولها، وفي محاولة لصياغة موقف مشترك حيال القضايا الملحة التي تهم البشرية جمعاء.

من جديد يأتي مؤتمر كازاخستان ليؤكد حقيقة أنه ما من سلام بين الأمم إذا لم يكن هناك سلام بين أتباع الأديان، وما من سلام بين من يجهلون بعضهم، لذا يبقى التعارف واللقاء ركيزة أساسية لبشرية أكثر إنسانوية صامدة في مواجهة الرياح المعاكسة.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى