الحديث عن احتمال حصول لقاء أو اتصال هاتفي بين الرئيسين السوري بشار الأسد، والتركي رجب طيب أردوغان، حرّك المياه الراكدة في أكثر من مكان.
تَرقُّبُ الإعلان عن موعد حدوث اللقاء والتكهنات بفحواه بات هاجسا شاغلا وجذابا لدوائر القرار وللمهتمين على مختلف دوافعهم وغاياتهم.. إرهاصاتٌ كانت بمنزلة ومضة البرق التي لاحت في سماءٍ داكنة ملبدة بغيوم تحجب رؤية أي أفق أو بارقة أمل في نفق العلاقات، التي استحكمت بين دمشق وأنقرة خلال السنوات العشر الماضية. فلم تهدأ الدبلوماسية الروسية في سعيها الحثيث لنزع فتيل الأزمة -أو على الأقل تدوير زواياها- منعا لتفاقمها وانتقالها إلى مجابهة ميدانية تخلط أوراق جميع اللاعبين. فقد جمعت موسكو أكثر من مرة ممثلين عن استخبارات البلدين في العاصمة الروسية، وهو ما اعترف به الرئيس “أردوغان” في معرض تعليقه على أحاديث اللقاء المزمع مع الرئيس السوري بشار الأسد.
لقد انخرطت موسكو في مسار “آستانا” لضبط أي محاولة انفجار ميداني غير محسوب على الأرض السورية، خصوصا في المناطق التي لا تخضع لسيطرة الدولة السورية.
وابتكرت موسكو تفاهمات “سوتشي” للتنسيق الثنائي مع أنقرة بشأن الملفات الأكثر حساسية وسخونة في الشأن السوري.
كما تعاطت مع الهواجس الأمنية التركية على حدودها الجنوبية المتاخمة للحدود الشمالية السورية ببراجماتية لم تنجُ في بعض المراحل من انتقادات سورية رسمية مبطّنة.
وبين الحين والآخر كانت موسكو تفرد على طاولة التفاوض مع الجانب التركي أوراقا مثيرة لاهتمام أنقرة، مثل تفعيل اتفاقية “أضنة” الأمنية الموقعة عام 1998 بين سوريا وتركيا، والتي تسمح لها بملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي السورية بعمق خمسة كيلومترات.
فعلت روسيا كل ذلك لإدراكها العميق أهمية وضرورة نجاحها في هذا الملف وفوائده الاستراتيجية لها على المستويين الإقليمي والدولي.
أيضا لم تغب مساعي تنقية الأجواء بين الجارَين عن اهتمامات عواصم عربية أبدت حرصها على ضرورة المحافظة على وحدة سوريا وسيادتها واستقلالها.. فالقواسم المشتركة بين الدولتين، سوريا وتركيا، تتوزع بين تكتيكية، متعلقة بترتيب الأولويات الأمنية والاقتصادية والسياسية بينهما، وأخرى استراتيجية مرتبطة بدوافع ودواعٍ يتحسّسها الطرفان التركي والسوري، كلٌّ وفق أهدافه ومعطياته.
على صعيد الداخل التركي تبدو المسألة السورية مرشحةً لاحتلال مراكز متقدمة من أجندة الحملات الانتخابية الممهدة للانتخابات المقبلة بعد عام تقريبا، حيث تعالت أصوات الأحزاب المعارضة لحكومة “العدالة والتنمية”، مطالبة بعودة العلاقات الرسمية كاملة مع دمشق، وبضرورة إيجاد حل لائق لموضوع اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى بلادهم.
مطالب المعارضة ترافقت مع انتقاداتها الأداء الاقتصادي للحزب الحاكم، الذي يجد نفسه مدفوعا لمنازلة المعارضة التركية عبر الحملة الانتخابية، والعمل على سحب البساط من تحت أقدامها وسد النافذة التي تتسلل منها، ما يجعل إمكانية التلاقي التركي مجددا مع سوريا غير مستبعد.
أما على الصعيد الخارجي، فتركيا تدرك أهمية البوابة السورية لتدعيم انفتاحها على محيطها وترسيخ دعائمه الحيوية في مجمل الساحة العربية، كما تدرك ثقل العبء المتراكم أمنيا واقتصاديا وسياسيا، والناجم عن الأوضاع القائمة في سوريا، إنْ هي بقيت على حالها وطال زمنها أكثر.
بعض القواسم بين الجارين متعلقة بسياقات تعاون سياسي واقتصادي وأمني على مساحة جغرافية مشتركة وموحدة الهدف.
وقد ظلت تلك القواسم دون تبدلات جوهرية رغم ما اعترى العلاقات من خلل وعداء خلال العقد المنصرم، وما فرضته التطورات الميدانية على الحدود من حقائق جديدة.
تركيا تريد الاطمئنان إلى أن أمنها القومي غيرُ مهدد عبر الحدود الشمالية السورية.. فيما تعتبر وجود عناصر من حزب العمال الكردستاني في بعض المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية في شرق الفرات وفي الشمال الشرقي لسوريا مصدر قلق لها.
وزير الخارجية التركي، شاووش أوغلو، أعلن الشهر الماضي صراحة استعداد بلاده دعم الجيش السوري ضد قوات سوريا الديمقراطية، “قسد”، وهو موقف يجوز اعتباره تحولا استثنائيا في الخطاب السياسي الرسمي لتركيا تجاه سوريا على مدار عشر سنوات.
أما سوريا فتسعى لتصحيح الوضع الناشئ في عدد من مدنها المتاخمة للحدود التركية واستعادة سيطرتها على جميع أراضيها، التي يسيطر عليها مسلحون مدعومون من أنقرة، وبسط وجودها على مناطق الشمال والشمال الشرقي من البلاد، كما تسعى لإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية كـ”جبهة النصرة” المنتشرة في إدلب وفي بعض مناطق الشمال الغربي بين حماة واللاذقية.
إذًا.. بحوزة كل جانب أوراقٌ مفيدة للجانب الآخر، سواء على مستوى العلاقات الثنائية أو على مستوى أشمل.. كل ذلك لا ينفي حجم التعقيدات، التي نشأت بين البلدين خلال السنوات العشر الماضية، ولا يُسقِط تأثير ظلالها الثقيلة على آفاق العلاقات المستقبلية.. ربما تكون الظروف قد نضجت لدى الطرفين لبدء العمل على طيّ صفحة الماضي.. فسوريا بوابة جيوسياسية هامة وضرورية لأنقرة.. وتركيا جسر حيوي لدمشق نحو أوروبا.. كسرُ الجليد بين الجارَين قد يكون مدخلا لإطلاق عجلة التسوية السياسية النهائية في سوريا.