الأزمة الدائرة في العراق ليست أزمة صراع بين فصائل مذهبية متنافسة. إنها أزمة نظام سياسي عاجز.
هذه الأزمة ليست جديدة. لقد زرع المحتلون الأمريكيون بذرتها، فلما أنبتت شرًّا وخرابًا وانتهاكاتٍ، تركوا البلاد وهربوا.
وقّعوا اتفاقًا يضمن لهم مصالحهم الأساسية في عام 2008 “تم بموافقة إيران، لتقاسم الحصص بينها وبينهم”، وتركوا البلاد للعابثين والفاسدين ومنتهكي حقوق الإنسان، في نظام قائم على نهب الموارد.
ولا شيء اليوم أكبر من صمتهم المجلجل، عما أورثوه لهذا البلد.
العراق لم يخرج من حفرة الأزمات المتتالية منذ ذلك الحين. أشكال الأزمات تعددت، ولكن الجوهر ظل هو نفسه.
النزاع القائم الآن بين “التيار الصدري” وجماعات الولاء لإيران كان يمكن أن يحدث بين أي طرفين يتنافسان على النفوذ. فمنذ أن وقفت البلاد على حافَة الإفلاس بعد تبديد أكثر من تريليون دولار من عائدات النفط، فإن نزاعًا أو آخر كان المحتم أن ينفجر.
والبلاد ظلت بلا كهرباء كافية ولا خدمات، ولا شيء فيها يعلو فوق تلال الديون، إلا تلال الفقر والبطالة والانهيار الأمني والفشل الإداري.
المسألة الآن، أبعد من مجرد مسألة تحميل المسؤولية على طرف واحد. لأن أي طرف كنتَ ستضعه على رأس هذا النظام، سيحقق النتيجة نفسها، لأنه قام على أُسسٍ تنتج الفشل وتغذّيه وتفاقمه، دون أن يمكن وضع المسؤولية على كتف أحد. وذلك بسبب مناهج التسويف وتدابير المخادعات الداخلية فيه، التي ترافقت مع نشأة النظام.
الصراع الراهن كشف واقع الأزمة، ليتضح أنها أزمة نظام، لا أزمة تنافس على النفوذ بين جماعتين.
عمق الأزمة قد يبرر لأي طرف محاولة الظهور بمظهر المتطهّر لكي يلقي بالمسؤولية على الطرف الآخر. ولكن، إذا كان الحل الصحيح مطلوبًا، فإنه لا بد وأن يأخذ في الاعتبار ثلاث حقائق:
الأولى، هي أن العراق لا يُقاد بمشروع طائفي، ولا بأحزاب طائفية، لأنها في النهاية سوف تخدم أجندات لا علاقة لها بمصلحة العراق كوطن، ولا بمصلحة العراقيين كمواطنين على أسس العدل والمساواة وبعيدا عن أي تمييز.
التمييز على أسس طائفية، هو أحد أهم أدوات الفساد. وهو الأساس الذي حطم معايير الكفاءة والمهنية والمسؤولية لحساب معايير الولاء والتبعية والروابط الحزبية أو الشخصية. و”الدولة العميقة” التي تأسست على معايير الولاء الطائفي والشخصي، كان من الطبيعي تمامًا أن تتحول إلى دولة فساد وتسويف وفشل. لأن معاييرها ليست هي ذاتها المعايير التي تحكم عمل أي مؤسسة.
المشروع الطائفي، هو بطبيعته مشروع لا وطني. لأنه، بحسب هذه الطبيعة بالذات، يضع الطائفة فوق الوطن. وهو ما يُغري طوائف وقوميات أخرى أن تفعل الشيء نفسه، حتى أصبح من باب تحصيل الحاصل أن ينتهي الأمر بهدم الوطن، لكي ترتفع منافع أولي أمر الأحزاب والطوائف، حتى على حساب الطوائف نفسها.
والثانية، هي أن نظام المحاصصة السياسية مشروع لبناء دولة فساد. لأن الأساس فيه هو أن تتقاسم أطراف “العملية السياسية” موارد البلاد بوصفها منافع خاصة لهذا الحزب أو ذاك، وبالتالي كمنافع شخصية.
اشتراك الجميع في “نظام المحاصصة” يشبه توسيع قاعدة المستفيدين، الذين يشتركون في “تقاسم الكعكة”، ولا يُفسد أحدهم على الآخر، في الوقت نفسه. لأنهم جميعًا أطراف في لعبة واحدة. الكل ينهب لحسابه الخاص، ما لا يُبقي لأحد مبررًا لا لتوجيه اللوم ولا للمحاسبة.
ولهذا السبب، لم يمكن محاسبة كبار الفاسدين، واقتصر الأمر على ملاحقة الصغار الذين يمكن التخلي عنهم.
والثالثة، هي أن العراق غير قابل للتقسيم، ما يجعل مشاريع التجزئة على أسس طائفية أو قومية، مجرد مشاريع تنازع واضطرابات وانعدام استقرار أبدي.
ما يمنع الأكراد في شمال العراق من تشكيل دولة مستقلة، أمر لا يخص العراق وحده. إنه قضية توازنات إقليمية ومعاهدات دولية. أي تلاعب فيها يمكن أن يكون سببًا للحرب، أو أن يجعل تلك الدولة تابعًا لطرف إقليمي آخر، أو حتى خاضعة لاحتلاله المباشر.. فيكون مثلُ الأكراد كمثل المستجير من الرمضاء بالنار.
الترابط الاجتماعي التاريخي بين الشيعة والسنة في العراق لا يمكن كسره إلا بحرب أهلية يصنعها طرف ثالث. وقد تمت تجربة هذه الحرب في المراحل الأولى لسنوات الاحتلال، إلا أنها فشلت.
بغداد ظلت بغداد، مدينة للجميع. وعاصمة لوطن واحد.
الخائضون في رحاب الأزمة الراهنة يحسنون صنعا لو أنهم أخذوا هذه الحقائق في الاعتبار، إذا شاءت لهم النجاة أن يبنوا نظاما جديدا، على أنقاضِ نظامٍ ثبتَ أنه عاجز.