نظرتي الشخصية أن “تيك توك” ليس عدو الصحافة، هو أداة جديدة للوصول إلى الجمهور بشكل مختلف.
ظهور “تيك توك” ونموه ظاهرة تدرّس.. تطبيق جاء من الشرق، يتمكن بزمن قياسي -نسبيًّا- من السيطرة على حصة كبيرة من وقت واهتمام الجمهور العالمي، ليتحول بشعاره الغريب إلى جزء من طقس الحياة اليومية لأكثر من مليار مستخدم حول العالم من مختلف الثقافات.
ظهور “تيك توك” ونجاحه جاء في وقت لم يتخيل أحد إمكانية وجود مساحة لتطبيق جديد قادر على مزاحمة عمالقة شبكات التواصل الاجتماعي التقليديين.. لم يتوقع أحد أن يهتم الجمهور بإعطاء فرصة حقيقية لمنصة جديدة، في الوقت الذي استثمروا وقتا وجهدا في بناء حضورهم وشبكات علاقاتهم على المنصات الأخرى من إنستجرام، وفيسبوك، وسناب شات، وتويتر.
والأكثر غرابة كان استمرار اهتمام الجمهور بـ”تيك توك”، بالرغم من محاولات المنافسين طرح ميزات شبيهة به.
شخصيًّا أجد أن نجاح “تيك توك” يجب أن يكون مفرحا للعاملين في مجال تطوير وإدارة المنتجات والمشاريع الرقمية، لأنه يثبت بشكل كبير إمكانية نجاح المشاريع الجديدة، حتى في وجود اللاعبين الكبار الذين يسيطرون على وقت واهتمامات الجمهور.
فالسر يكمن في التنفيذ الذكي لاستراتيجيات النمو والمنافسة. وتوظيف أحدث التقنيات الحديثة، والتي على رأسها الذكاء الصناعي، وخوارزميات “تيك توك” أثبتت قدرات وبراعة استثنائية في التقاط اهتمامات المستخدم واقتراح المحتوى الذي يملأ وقته بما ينسجم مع تفضيلاته.
في أثناء دراسة الماستر، كان مقررا علينا أن ندرس كتاب فيليب كوتلر الشهير “إدارة التسويق”.. كان كتابا عملاقا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي وقت لم توجد به بعد الكتب الرقمية بشكلها الحالي، كان التعامل مع كتابه العملاق ذاك الذي تجاوز وقتها 650 صفحة، تحديا حقيقيا، وزاد صعوبة التحدي إصرار مدرّسة المادة -التي كانت من المحظوظين الذين درسهم كوتلر شخصيّا- على أن نكون مُلمين بكل جوانب الكتاب وأفكاره واستراتيجياته بدقة.
للأمانة، إصرارها وغزارة أفكار الكتاب وأسلوب كوتلر واسمه الكبير، والأمثلة والحالات العملية الممتعة بالكتاب، جعلت رحلة التعلم أسهل، والآن وبعد 12 سنة من دراسته، لم أزل أجد هذا الكتاب مدهشًا، وبالرغم من أن أدوات تسويق اليوم أصبحت أغلبيتها رقمية، لكنني لم أزل أرى بوضوح -مع كل إعلان أشاهده وظاهرة نمو- روابط بأفكار كوتلر.
من أكثر مفاهيم الكتاب التي كنت -وما زلت- معجبا بها هي نظرة كوتلر الشاملة لمفهوم المنافسة والمنافسين. ومنها حاولت تحديد منافسي “تيك توك”.. والتعرف على السبب الذي يجعلنا نلاحظ قلقهم منه بوضوح.
من الواضح أن منصات التواصل الاجتماعي تجد “تيك توك” منافسا لها، بالرغم من أنه لا يقدم -حتى اللحظة- حلولا أو خدمات مشابهة لها. فلا يمكن أن نستبدل بـ”تيك توك” تويتر أو شبكة أصدقاء فيسبوك أو شبكة علاقات “لينكد إن”.. ومن الواضح أيضا أن منصات الفيديو تجد “تيك توك” منافسا بالرغم من أنه لا يحتوي على مقاطع فيديو طويلة مثل يوتيوب، ولا مسلسلات وأفلام كلفت ملايين الدولارات مثل التي تقدمها نتفليكس.
وتمتد قائمة الجهات، التي تعتبر “تيك توك” من منافسيها لتشمل نشاطات مختلفة من تطبيقات تعتمد على الصور (مثل إنستجرام)، ومنصات الأخبار، والمحطات التليفزيونية، وقنوات البودكاست، وحتى منصات ألعاب الفيديو.
الفكرة ببساطة أن “تيك توك” ينافس كل ما سبق -وغيره- على وقت المستخدم المحدود، فالجميع يتنافس على 24 ساعة نمتلكها يوميًّا، ومع استمرار “تيك توك” بقدرته على تقديم المحتوى الممتع، سيستمر الجمهور في تخصيص وقت أطول له على حساب الوقت المُعطى لبقية المنصات.
وفق إحصائيات قدمها موقع Sensor Tower، في الربع الأول لـ2022، بلغ متوسط استخدام “تيك توك” اليومي أكثر من 1.5 ساعة “95 دقيقة”، وهذا الرقم يمثل أربعة أضعاف متوسط الاستخدام اليومي لـ”سناب شات”، والذي يقدر بـ21 دقيقة يوميا، وأكثر من ثلاثة أضعاف الوقت الذي يقضيه مستخدمو تويتر “المقدر بـ29 دقيقة يوميا”، وما يقرب من ضعف متوسط الوقت اليومي لمستخدمي فيسبوك “49 دقيقة”، وإنستجرام “51 دقيقة يوميا”.
السبب الآخر، الذي يُقلق المنافسين، هو استمرار النمو، فـ “تيك توك” هو أول تطبيق -لا يتبع مجموعة تطبيقات ميتا- يحصل على 3 مليارات عملية تثبيت من خلال متاجر التطبيقات.
ولا تزال قاعدة مستخدميه تستمر في النمو، ليس فقط جغرافيًّا، بل تتمدد لتضم شرائح عمرية جديدة.. وحتى استخدامات جديدة، حيث سجلت دراسات تمت مؤخرًا في المملكة المتحدة تزايد اعتماد جمهور “تيك توك” الشاب على محتوياته للحصول على الأخبار والبحث عن المعلومات.
أيّا كانت أسباب نجاح “تيك توك”، فمن الواضح تمامًا أن الجمهور يخصص الكثير من الوقت له، ومن الواضح أن أهمية وجود المنصات الإعلامية عليه ليس من الكماليات، بل هي عامل نجاح أساسي في المشهد الإعلامي الحالي.
اليوم، على وسائل الإعلام، بدلا من اعتبار “تيك توك” تهديدا، النظر إليه على أنه أحد أوجه التطور الطبيعي لأذواق الجمهور وأساليب استهلاكه للمحتوى.. تطور قلب المشهد رأسًا على عقب، وحوّل مشاهدة المحتوي التقليدي من الشكل الأفقي، الذي اعتدنا مشاهدته على شاشات التليفزيون واليوتيوب، إلى الشكل العمودي بملء الشاشة.
طبعا، اختلاف محتوى “تيك توك” عن باقي المنصات يتعدّى الشكل فقط، فالمحتوى يقدَّم هناك بإيقاع مختلف، يشمل الأسلوب، واللغة، والصياغة.. ولهذا السبب فإن من غير المُجدي للمنصات الإخبارية إعادة بث مقاطع الفيديو المُعدة للتليفزيون أو غيرها من المنصات الاجتماعية على “تيك توك”، بل يجب الاستثمار في بناء محتوى مخصص ينسجم مع توقعات جمهور مستخدمي “تيك توك”.
نجاح “تيك توك” إشارة إيجابية لكل المؤسسات ورواد الأعمال الذين يودون امتلاك تطبيقات مليارية، إنها علامة على وجود فرص نمو كبيرة مبنية على استعداد الجمهور الدائم لإعطاء فرصة للتجارب الجديد وتغيير أساليب استهلاكه للمحتوى والخدمات الرقمية.