سياسة

الفساد والدائرة المغلقة في العراق

علي الصراف


الصلة الوثيقة بين الفساد والمليشيات الولائية لإيران في العراق لا تحتاج إلى مزيد من الأدلة.

 

اكتب كلمات “الفساد في العراق” على محرك البحث “جوجل”، ولسوف ترى العجب العجاب.

الأرقام مروعة بكل معاني الكلمة، إلى درجة أنها ترقى، بما تركته من آثار على حياة 40 مليون مواطن، إلى مستوى الجرائم العظمى التي تتطلب محاكمات عامة، لا أن تعود أطراف الفساد إلى السلطة من جديد.

عقدان من الزمن مرّا على هذه الحال. والفساد لم يشبع. ولا الذين جنوا الملايين والمليارات قالوا لأنفسهم كفى. والسبب هو أن الجريمة، بعد أن ارتُكبت، ظلت تتطلب التغطية وإتلاف الأدلة واستمرار الغطاء. ولكي تتمكن من ذلك، فإن الضرورة الأمنية تقتضي أن تعود دورة الفساد لتدور من جديد، ربما إلى ما لا نهاية.

هذه الأطراف لا تكتفي بمنع التحقيقات أو تسويفها أو خفضها إلى مستويات أدنى، ولكنها تريد فوق ذلك، أن يبقى نظام “المحاصصة” الحزبية، داخل نظام المحاصصة الطائفية، داخل نظام المحاصصة الفيدرالية، ليكون هو الأساس من جديد لتشكيل الحكومة، بما يؤدي ضمنيا إلى تكريس علاقات الفساد داخل مؤسسات الدولة، وأن تتوفر لبقائها الضمانات.

الكثير من المتهمين المباشرين بأعمال الفساد ما يزالون يمارسون أدوارهم السياسية وكأن ما ارتكبوه لا يضعهم أمام سلطة القانون.

وفي الواقع، فإن سلطة القانون نفسها لم تخلُ من مظاهر الفساد. ما يجعل دورة الفساد مُحكمة ومغلقة، ولا طائل من مطاردتها، لأنها سوف تظل تتعثر. بل إن بعض المفسدين يمكن أن يتخذ من فساد سلطة القانون فرصة للتبرئة أيضا.

وما من تحقيق نجح في التوصل إلى نتيجة تكشف الفاعلين الكبار بشأن الجرائم الأخرى من قبيل الاغتيالات وأعمال قتل المتظاهرين.

الاحتجاجات التي اندلعت في أكتوبر 2019 ودامت عاما ونيف، كانت تعبيرا عن اليأس من أن يتمكن هذا النظام من إصلاح نفسه، أو حتى تعديل طرائق إدارته للسلطة.

فلما جاءت الانتخابات في أكتوبر الماضي، قاطعها نحو 60% من الناخبين. كما قاطعتها قوى وأحزاب تمثل صوتا وطنيا مختلفا، كتعبير آخر عن اليأس.

ولكن الانتخابات أجريت على أي حال، وكان من الطبيعي، بعد تلك الاحتجاجات، وبعد أزمات فشل متعدد المستويات، أن تسفر عن تعديلات في موازين القوى بين أطراف المحاصصات. جماعات ما يسمى “المكوّن الشيعي” -والتسمية زائفة- حدث فيها تغير دفع جماعات الولاء لإيران ومليشياتها إلى الخلف. كما حدثت تعديلات بين المكونات الأخرى. إلا أن المنفصلين عن الواقع رفضوا النتائج، وربما ظنوا أنهم، بعد فسادهم كله، يجب أن يحققوا الفوز، وأن الشعب العراقي الذي أغرقوه بالفقر والحرمان يجب أن يكافئهم على ما ارتكبوه من جرائم بحقه.

سبب هذه “القناعة” هو أن نظام الفساد الذي أقاموه ورعوه على مدار عقدين من الزمن، مُحكم ومُغلق. وبما أنه كذلك، فإنه يتعين أن يشمل الانتخابات أيضا، وإلا فإنها “مزورة”! أي إنها لا تتطابق مع طبيعة نظام المحاصصة، الذي أفسد كل شيء، بما في ذلك إرادة بعض “الناخبين”، الذين بات من الممكن الاتجار بيأسهم، مقابل صندوق طحين وزيت وسكر ومكافآت لبعض رؤوس الغنائم.

الطرف الذي انكتبت له الغلبة داخل هذا “المكون”، ربما أدرك أن الدائرة المُرّة يجب أن تنكسر. على الأقل من أجل تغيير طفيف أو غير طفيف، يمكنه أن يبرر بقاء جماعات “المكوّن” على مقربة من السلطة، وأن يخفف الانطباعات العامة عنها، ويمنح العراقيين بعض أمل بإمكانية وضع حد لتفاقم الفساد، حتى وإن لم يمكن فتح ملفاته السابقة. وهو ما يعني أن تغيير مسارات الجريمة، الذي يفرضه الواقع، من الخير للفاسدين أنفسهم أن تتم إدارته من داخل “المكوّن”، بدلا من أن تُترك الأزمة تستفحل حتى يقع انفجار جديد، فينهار كل شيء على رؤوس الجميع.

هذه المقاربة لم تنجح. وتمسك أصحاب الولاء لإيران بأن يعودوا إلى الدائرة نفسها، دائرة توزيع الحصص وتقاسم المنهوبات. لا سيما وأنهم يعتقدون الآن أن عائدات العراق من النفط زادت بما يكفي لكي تتم “محاصصتها” بين فسادهم وخدماتهم لإيران من جهة، وبين بعض الخدمات والمشاريع لخداع العراقيين بها من جهة أخرى.

وبطبيعة الحال، فإنهم لا يريدون لطرف واحد داخل هذا “المكوّن” أن يحظى بالفرصة وحده، ويجني منافعها السياسية لنفسه.

ما كان مُحكما ومُغلقا يتصدع. ولسوف يظل متصدعا كيفما جاءت نتيجة المناورات والضغوط، لأن الفضيحة عارمة، ولأن الجرائم العظمى لم يعد من اليسير أن تتكرر على نحو ما ظلت تسير عليه.

وقد ينتهي الأمر إلى انتخابات جديدة. والتصدع سيعود ليؤكد نفسه من جديد.

السبب الرئيسي في ذلك، هو أن الذين انفصلوا عن الواقع، أمام خيارين: إما أن يدركوه فيهربوا للنجاة بما خفَّ حَمله. وإما أن يواصلوا إنكاره لتعود الدائرة المغلقة تدور على نفسها حتى يأتي الانفجار.

 

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى