هل الارتباك الإعلامي وبعض السياسي الأمريكي المصاحب لزيارة الرئيس جو بايدن إلى السعودية ارتباك بديهي؟
“تُبصر الحياة بشكل مختلف وأنت جالس في المكتب البيضاوي”.. هكذا أجاب الرئيس الأمريكي الراحل جيرالد فورد رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، إسحق رابين، الذي زاره في “البيت الأبيض”، مستعيدًا وإياه وعدًا قديمًا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس لو قُيّض لـ”فورد” أن يصبح رئيسًا لأمريكا.
كان جيرالد فورد عضوًا في الكونجرس حين وعد صديقه “رابين”، سفيرَ بلاده آنذاك في واشنطن.
لم يشذ عن قواعد الترويض هذه من سبقوا جيرالد فورد أو من لحقوه، في الإمساك بقرار أهم مكتب في العالم.
القاعدة الرئيسية في واشنطن، وربما في بقية العالم، أن المرشحين يتحدثون بالأبيض والأسود، جزمًا وحسمًا، لكنهم سرعان ما يتلوّنون بالرمادي وهم في سدة الحكم جراء تعاملهم مع متغيرات كثيرة لا يتحكمون فيها.
عبارة أخرى، لحاكم نيويورك السابق ماريو كومو “والد الحاكم السابق آندرو كومو ومذيع محطة (سي إن إن) السابق كريس كومو” جرت استعادتها كثيرًا في الأسابيع الفائتة تقول: “يخوض السياسيون حملاتهم بالشِّعر، لكنهم لا يلبثون أن يحكموا بالنثر”.
والحال، قد تبدو مُناخات الارتباك المثارة حول زيارة “بايدن” مفهومة، كحلقة من حلقات هذا الإرث السياسي الطويل، الذي من سوء حظه أنه يحصل اليوم في ظل استشراس واستنفار وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُحصي الأنفاس وتزخم الشعور بالتفوق الأخلاقي وتسلح الأفراد بقدرات جبارة على النقد والسخرية والتعيير، كما يحصل في سياق من الانقسام السياسي والاجتماعي والأخلاقي غير المسبوق داخل أمريكا.
بيد أن ما نحن بإزائه يتجاوز تعديلاً في موقف “المرشح” بعد أن أصبح رئيسًا.
إننا أمام تغيير جذري في مرتكزات السياسة الخارجية الأمريكية، بعد أن تغير العالم الذي فاز فيه “بايدن”، عن ذاك الذي يخوض فيه معركة الانتخابات النصفية.
استسهلت الإدارة الأمريكية الحالية قبل نحو سنتين تبنّي سياسة خارجية قوامها قيم وأخلاقيات ومشروع “الأممية الليبرالية”.
وجاءت هندسة فريق السياسة الخارجية الأمريكية لتعكس هذا التوجه الاستراتيجي، عبر مجموعة من “التقدميين المثاليين” بقيادة وزير الخارجية الحالي، أنتوني بلينكن: فُوضت للعمل وفق تصور للسياسة الخارجية يقوم على فلسفة الصراع بين الديمقراطيات والديكتاتوريات.
في الشرق الأوسط برزت المملكة العربية السعودية، بشكل رئيسي، كهدف من أهداف هذه السياسة لأسباب سال حولها الكثير من الحبر والكلام، تبدأ من رواسب جريمة 11 سبتمبر/أيلول 2001 في العقل الليبرالي الأمريكي، وصولاً إلى حرب اليمن، مرورًا، وهذا الأهم، بالعلاقات المميزة التي ربطت بين الرياض وواشنطن في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
وقاد العمى الأيديولوجي بعض الأصوات في واشنطن إلى تجاوز متعمد وظالم لأجندة التحديث الاجتماعي والديني والاقتصادي والإداري غير المسبوقة، التي يقودها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بشخصه وبتفويض كامل من والده الملك سلمان بن عبد العزيز.
وفي العالم، برزت الصين كعنوان أكبر لأجندة هذ الصراع بين نظامين سياسيين واقتصاديين وقيمَين، وخط التماس الفاصل بين عالم الديمقراطيات وعالم النظم الشمولية، كفكرة ثنائية وريثة لفكرة الخير والشر أو الإرهاب والليبرالية أو الشيوعية والرأسمالية، إلى آخر سلسلة التقسيمات الثنائية لأحوال العالم في العقل السياسي الأمريكي.
سار كل شيء على ما يرام إلى أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من أوكرانيا، عن “انقلابه” على النظام الدولي، مفتتحًا مشروعًا “ثوريًّا” يسعى لإحياء صراع المحاور وصراعات نفوذ القوى الدولية في نظام تنافسي متعدد الأقطاب.
لم تعش مدرسة في السياسة الخارجية الأمريكية أقصر مما عاشته مدرسة “التقدميين المثاليين”.. ففي مواجهة النتائج المرعبة لـ”الانقلاب البوتيني”، على الأمن الغذائي العالمي، وخطوط التجارة الدولية، وسلاسل التوريد التي لم تتعافَ بعدُ من محنة جائحة “كوفيد-19″، وتضخم أسعار السلع الحيوية، ومصاعب تحرر أوروبا من أسر الغاز الروسي، شهدت واشنطن انقلابًا صامتًا في النخبة التي تقود السياسة الخارجية، كان من أبرز تجلياته تقدم دور مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وليام بيرنز، في السياسة الخارجية على دور وزير الخارجية نفسه.
ولعل ما سهّل هذا التعديل في الأدوار، أن “بيرنز” هو أول مدير للوكالة يأتي إلى المنصب من سيرة ذاتية عامرة في الدبلوماسية الأمريكية، خلافًا لأسلافه الآتين من مواقع عسكرية أو من الكونجرس أو من داخل الوكالة نفسها.
يعدّ “بيرنز” الاسم الأقرب في نخبة الإدارة الأمريكية إلى فئة “التقدميين الواقعيين”، الذين خلافًا لـ”التقدميين المثاليين” يقاربون أحوال العالم بمزيج من المصالح والوقائع والقيم، لا بسلوك التفوق الأخلاقي وحده.
ولعل أهم ما في هذا التحول على أبواب الزيارة الأمريكية المهمة إلى السعودية، الإدراك أن السعودية ليست نفطًا.
فحتى بمعايير الواقعيين ينبغي أن تشكل هذه الزيارة فرصة لإعادة تعريف المصالح الاستراتيجية التي تربط بين أمريكا والشرق الأوسط من بوابة الموقع السعودي القديم والمشروع السعودي الجديد، وعدم الاكتفاء بمرتكزات نفعية تبادلية لعلاقة محكومة بظرف راهن، هو ظرف انعكاسات الحرب في أوكرانيا على أسعار الطاقة.
السعودية مرتكز رئيسي من مرتكزات الاستقرار في المنطقة والعالم، ومهبط اضطراري لاستقرار الاقتصاد العالمي، وسلامة خطوط التجارة الدولية، ومشروع تحديث حضاري على مستوى موقع الإسلام في حوار الحضارات وتفاعلها، والقاطرة السياسية التي بإمكانها أن تعطي دفعًا استثنائيًّا لإعادة التشكل الاستراتيجي في الشرق الأوسط من بوابة السلام مع إسرائيل.
السعودية ليست نفطًا.. فهْمُ هذه القاعدة البسيطة هو المدخل لطيّ صفحة سنتين من التجريب السياسي بنتائجه البادية لكل عين.
نقلا عن الشرق الأوسط