سياسة

الرقمنة والمستقبل: الإمارات نموذجًا

د. سعيد خلفان الظاهري


“العلم اللي إنتو تتسلّحون به والتقنية اللي تتعلمونها لازم تكون أحسن الموجود في العالم”… صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.

من انطلاقة مرحلة التأسيس التي بدأها المغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيَّب الله ثراه- التي تميَّزت برؤيته الاستشرافية لتأسيس دولة عصرية حديثة، إلى مرحلة التمكين التي قادها المغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان- رحمه الله- واستمر فيها على نهج الشيخ زايد الاستشرافي، وتعزيز الفكر المستقبلي من خلال “رؤية الإمارات 2021” لتنويع الاقتصاد، والوصول إلى اقتصاد تنافسي معرفي مبنيّ على الابتكار، إلى المرحلة الجديدة المقبلة التي يقودها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حفظه الله، الذي عُرف بفكره الاستباقي الذي لا يَعرف المستحيل، وحرصه على التقدم العلمي والتكنولوجي، والاهتمام بالنوعية والجودة، ولا شك في أن سموه سيقود دولة الإمارات ورؤيتها للخمسين عامًا المقبلة لتكون الفُضْلى عالميًّا بحلول عام 2071..

يُلخِّص هذا المقال جهود دولة الإمارات الرامية إلى تحقيق الريادة والصدارة العالمية في الرقمنة، ويعرض نموذجها الرقمي الفريد، ويستشرف أبعاد الرقمنة في المرحلة المقبلة، التي تتطلب فكرًا مختلفًا في التعامل مع حالتَي عدم اليقين والتعقيد اللتين يعيشهما العالم الآن، وما تفرضانه من تحديات مستقبلية.

مرحلة التمكين (2004–2022)

في هذه المرحلة، التي قادها فقيد الوطن الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان -رحمه الله- وعمل فيها على إطلاق خطة استراتيجية لحكومة الإمارات، حكومة كما وصفها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، “أسرع في الإنجاز.. أقرب للميدان.. محور عملها الإنسان.. وطموحاتها أن تسبق نفسها.. وتسبق أمسها.. وتحقق أفضل حياة لشعبها”.

وليس هناك أفضل من هذه الكلمات التي تعكس فكر قيادة دولة الإمارات في العمل الحكومي، إذ ترجمت هذه الحكومة فكر القائد الراحل الشيخ خليفة -رحمه الله- من خلال العمل على تمكين دولة الإمارات رقميًّا بتطوير بنية تحتية متقدمة، وشبكة اتصالات متطورة، ووضع استراتيجيات ومبادرات رقمية للخدمات الحكومية، لضمان رفاهية الشعب وسعادته، ومحو الأمية الرقمية لدى مواطني دولة الإمارات والمقيمين فيها، وتحقيق التنافسية والتصدُّر في المؤشرات الرقمية العالمية.

وقد أطلقت حكومة الإمارات في العقد الماضي عددًا من الاستراتيجيات والمبادرات الرقمية، منها مبادرة الحكومة الذكية، وبرنامج الشيخ خليفة للتميز الحكومي، والسياسة العليا للعلوم والتكنولوجيا والابتكار، واستراتيجية الإمارات للابتكار، واستراتيجية المستقبل، واستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031، واستراتيجية الإمارات للثورة الصناعية الرابعة، وتأسيس مركز للثورة الصناعية الرابعة بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، والاستراتيجية الوطنية للصناعة والتكنولوجيا المتقدمة.

وصبّت هذه الاستراتيجيات والمبادرات في تعزيز التحول الرقمي بجميع الميادين، وتحقيق الصدارة في كثير من المؤشرات العالمية للرقمنة.

الريادة العالمية

بدأ تحقيق الريادة العالمية في الرقمنة والتحول الرقمي من “رؤية الإمارات 2021″، التي أطلقتها الحكومة في عام 2010، وركّزت على بناء اقتصاد تنافسي معرفي مستدام مبني على الرقمنة والابتكار.

وقد جاءت دولة الإمارات الأولى عربيًّا والعاشرة عالميًّا في مؤشر التنافسية الرقمية العالمي لعام 2020، الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية، كما جاءت الأولى عربيًّا والحادية والعشرين عالميًّا في مجال الحكومة الإلكترونية في مسح الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية لعام 2020، والثامنة عالميًّا في مؤشر الخدمات الإلكترونية في المسح نفسه.

واحتلت دولة الإمارات المركز الخامس عالميًّا في مؤشر الأمن السيبراني في تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2020، وحلّت في المرتبة الأولى في مؤشرات تأثير استخدام الحكومة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تحسين الخدمات الحكومية، ونسبة تغطية شبكة الهاتف النقال للسكان.

ولم يكن هذا التصدُّر ليتحقق لولا رؤية القيادة وفكرها الاستشرافي، وسعيها الدؤوب إلى المنافسة العالمية، ووضع الاستراتيجيات والمبادرات ومؤشرات الأداء، والحرص على تنفيذها بكفاءة وفاعلية.

ويمكن القول إن من أهم أسباب تصدُّر دولة الإمارات عالميًّا في مؤشر “بلومبيرج” لأفضل الدول مرونةً في التعامل مع جائحة “كوفيد-19″، الجاهزية الرقمية المتطورة من بنية تحتية رقمية، وخدمات إلكترونية ذكية، ومنصات رقمية تميّزت بها دولة الإمارات عن غيرها من دول العالم، وأسهمت كثيرًا في تحقيق المرونة التي نتج منها قَدْر أقل من تعطيل الأعمال والمجتمع، وذلك عن طريق تمكين العمل عن بعد، والتعلم عن بعد، والتجارة الإلكترونية. ونشير كذلك إلى الأثر الإيجابي للرقمنة، فقد احتلت حكومة الإمارات المركز الثاني عالميًّا في ثقة الشعب بالحكومة -بحسب مؤشر “إيدلمان” للثقة لعام 2022- في الوقت الذي تعاني فيه حكومات العالم أزمة ثقة بينها وبين شعوبها، إذ تُعَدّ جودة المعلومات إحدى أهم الأدوات لبناء الثقة بالحكومة، ما يعكس دور الرقمنة والتحول الرقمي في توفير المعلومات بجودة عالية.

وتبرز ريادة دولة الإمارات العالمية في استضافتها السنويّة للقمة العالمية للحكومات، التي تُعَد منصة عالمية للحوار، وتؤدّي دورًا رياديًّا في تحفيز حكومات العالم على الابتكار وتبنّي الرقمنة بهدف إيجاد حلول مستدامة للتحديات العالمية.

النموذج الإماراتي للرقمنة

بنَتْ حكومة الإمارات نموذجًا متفرِّدًا للرقمنة، له مرتكزات عدَّة، هي:

– القيادة الاستثنائية ورؤيتها المُلهمة، والأهداف الطموحة، ومؤشرات الأداء التي تضعها وتقيسها وتتابعها.

والسر في نجاح تنفيذ الاستراتيجيات والمبادرات -كما أشار إليه كثير من مسؤولي التحول الرقمي، الذين أجريتُ معهم مقابلات في كتابي “الأمة الرقمية: كيف تبني دولة الإمارات مستقبلًا قائمًا على الابتكار؟”، الصادر في عام 2019- يرجع إلى إلهام القيادة للمسؤولين، وشغفهم ببذل كل ما بوسعهم لتنفيذ الخطط الاستراتيجية والمبادرات الرقمية بكفاءة وفاعلية. 

– النهج الاستشرافي، والفكر المستقبلي، والعقلية الرقمية التي تبنّتها القيادات الحكومية ومسؤولو التحول الرقمي في الدولة، لتنويع الاقتصاد، والوصول إلى اقتصاد تنافسي معرفي، فقد تضاعفت نسبة إسهام الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي للدولة من 4.3 في المئة عام 2019 إلى 9.7 في المئة عام 2022.

– الاعتماد على برامج التميز المؤسسي والابتكار لتعزيز مبادرات التحول الرقمي الحكومي وتحسينها، ورفع تنافسية دولة الإمارات في المؤشرات العالمية.

– التركيز على البيانات بصفتها ثروةً حقيقيةً لحكومات المستقبل، ووقودًا للاقتصاد الرقمي، ومحرّكًا لتوليد نماذج أعمال جديدة لها تأثير مضاعف في الاقتصاد.

وقد عملت الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية على إنشاء منصات للبيانات المفتوحة، بهدف خلق قيمة من البيانات واستغلالها بتحليلها أو استخدامها في تطوير منصات ومنتجات وخدمات رقمية تعزز اقتصاد دولة الإمارات الرقمي.

وأطلقت هيئة تنظيم الاتصالات والحكومة الرقمية، في عام 2018، مسابقة سنوية للبيانات المفتوحة “هاكاثون الإمارات”، بهدف نشر ثقافة البيانات، وتحفيز المجتمع المدني وطلبة المدارس والجامعات على توظيف البيانات في تطوير حلول رقمية مبتكرة تسهم في تعزيز اقتصاد البيانات والاقتصاد الرقمي، وتطوير المدن الذكية المستدامة.

وقد حققت دولة الإمارات المركز الثالث عالميًّا في مؤشر “استخدام الشركات للبيانات الكبيرة والأدوات التحليلية” في تقرير التنافسية الرقمية العالمية عام 2021، الصادر عن مركز التنافسية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية.

– تأهيل المواهب والكفاءات الوطنية، وإكسابها المهارات الرقمية المطلوبة لعصر الثورة الصناعية الرابعة، مثل مهارات البرمجة، وعلوم البيانات، وتعلم الآلة، والبلوكتشين، وكذلك استقطاب المواهب والكفاءات العالمية المتخصصة بهذه المجالات، إذ أصبحت دولة الإمارات وجهة للمواهب العالمية، ومركزَ جذب لها.

وأطلقت الحكومة مبادرات عالمية، مثل مبادرة “مليون مبرمج عربي”، واستحدثت تخصصات جديدة في برامج الماجستير والدكتوراه، كما في “جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي”، وبرامج الماجستير في علوم البيانات بعدد من الجامعات الحكومية والخاصة في الدولة.

– تعزيز الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص، والعمل الجماعي المشترك ضمن فِرق عمل، وضمان تكامُلها على المستويين الاتحادي والمحلي في جميع إمارات الدولة.

وقد أنشأت الحكومة شراكات مع كبرى الشركات التكنولوجية الموجودة في الدولة لتنفيذ بعض المبادرات الرقمية، وشراكات خارجية مع أرقى الجامعات والكليات لتدريب المسؤولين الحكوميين وتأهيلهم في مجال التكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي ومهارات استشراف المستقبل.

– تحديث التشريعات والقوانين، واستحداث نماذج عمل مبتكرة لتطوير التشريعات والقوانين برشاقة ومرونة، إذ أطلقت حكومة الإمارات في عام 2019 “مختبر التشريعات” لدراسة أثر التكنولوجيا المتقدمة، واستحداث القوانين والتشريعات وتطويرها في بيئة تسمح بالتجربة والتعلم، وعلى نحو تدريجي، كما يجري الآن بالنسبة إلى السيارات الذاتية القيادة، لتقييم نتائج تجربتها في أماكن محددة، ومعرفة التحديات المحيطة باستخدامها، للخروج بالتشريعات المناسبة لها.

كما أجرت حكومة الإمارات أكبر عملية تحديث واستحداث للتشريعات في عام 2021 ضمن إطلاق “مشاريع الخمسين” لمواكبة تنفيذ “مئوية الإمارات 2071″، مثل استحداث قانون حماية البيانات.

ونشير هنا إلى المركز المتقدم الذي حققته حكومة الإمارات باحتلالها المرتبة الرابعة عالميًّا في مواكبة الأطر القانونية للأعمال الرقمية، بحسب مؤشر التنافسية العالمي لعام 2019 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

مستقبل الرقمنة في دولة الإمارات

طموحات دولة الإمارات كبيرة، ورؤيتها الاستشرافية التي رسمتها للمستقبل، المتمثلة في مئوية الإمارات بأن تصبح الدولة الفُضْلى في العالم بحلول عام 2071، هي رؤية مُلهمة تحرّك العقول، وتوفر للمواهب والأجيال المقبلة فُرص العمل والإنجاز.

وسيقود هذه الرؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وإخوانهما أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد حكام الإمارات، وبهذا تدخل دولة الإمارات عهدًا جديدًا لتحقيق مزيد من الإنجازات العالمية في الرقمنة عن طريق الاستمرار في تنفيذ استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031، واستراتيجية الإمارات للحكومة الرقمية 2025 لتحويل الحكومة إلى حكومة رقمية من حيث التصميم “Digital by design”، والتحول الرقمي الكامل للخدمات الحكومية بنسبة 100 في المئة، وإعادة تصميم الخدمات الحكومية بالاعتماد على التقنيات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، لتكون مرتكزةً على المتعاملين، وأكثر مرونة واستدامة واستباقية، ومتناسبة مع العصر الرقمي، بهدف تحقيق جودة الحياة ورفاهية المتعاملين وسعادتهم.

وتُمثّل بعض “مشاريع الخمسين”، التي أطلقتها الحكومة العام الماضي “2021”، فرصًا جديدة للرقمنة ستدفع الاقتصاد الرقمي إلى مستويات جديدة من النمو.

ونذكر هنا -على سبيل المثال- مشروع مسار التكنولوجيا “Tech Drive”، ومشروع الشبكة الصناعية الرابعة لتحويل القطاع الصناعي في الدولة إلى قطاع صناعي ذكي بوساطة تقنيات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والتوأمة الرقمية، والصناعة الثلاثية الأبعاد، وغيرها من التقنيات، كما نشير إلى مشروع “100 مبرمج كل يوم”، ومشروع “قمة PyCon العالمية للبرمجة”.

هناك فرص كبيرة لدولة الإمارات لتحقيق الريادة العالمية في الرقمنة والتحول إلى اقتصاد رقمي مستدام، فالثورة الرقمية المقبلة هي الثورة الخضراء.

وستحتاج هذه الفرص إلى التفكير بعقلية “النمو الأُسّي” “Exponential Growth”، أي التركيز على التغيير الأُسّي بالتكنولوجيا، التغيير الذي يُحدِث أثرًًا وتحولًا كبيرًا، ويحقق عوائد ونتائج عظيمة.

ولا نغفل عن مواجهة التحديات التي تأتي بها التكنولوجيا، مثل التحيّز في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وعدم المساواة، وغيرهما من التحديات الأخلاقية، ما يُوجِب علينا -نحن البشر- أن نكون أكثر تبصرًا في استخدام التكنولوجيا الإنسانية المرتكزة على الإنسان أولًا، والاعتماد على المبادئ الإنسانية والأخلاقيات الحميدة في تصميم هذه التكنولوجيا واستخدامها، لنضمن العدالة والمسؤولية والاستدامة، مع مراعاة ما يحتاج إليه المجتمع، بهدف تحقيق مستقبل أفضل لنا وللأجيال المقبلة.

وكما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان: “إن دولة الإمارات تعزز موقعها في تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، واستشراف مستقبلها، وتوجيهها إلى خدمة الإنسان وتقدمه ورفاهيته، وتؤمن بأن قيمة التكنولوجيا تكمن في قدرتها على تغيير حياة البشر إلى الأفضل، وأن مسؤوليتنا أن نجعل من التكنولوجيا جسرًا للبناء والتقدم والأمن والاستقرار للجميع”.

نقلا عن “مفكرو الإمارات”

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى