لا تزال أصداء انعقاد الدورة الخامسة للحوار الاستراتيجي الخليجي-الروسي على مستوى وزراء الخارجية تثير اهتماما إقليميًّا وعالميًّا.
وفي ظل تطورات الوضع العالمي فقد كانت مباحثات وزراء الخارجية مع نظيرهم الروسي جديرة بالمتابعة.
لقد جاءت مباحثات الحوار الاستراتيجي الخليجي-الروسي هذه المرة -أول اجتماع كان في 2011- في توقيت مهم، حيث كشفت تطورات الأزمة الأوكرانية، بما فيها مسار العملية العسكرية، أنها ليست أزمة مؤقتة ولا هي عملية سريعة أو محدودة، بل ستكون طويلة الأمد، إن لم يكن عسكريا فسياسيًّا.
وبالتالي ستمتد آثارها وتفاعلاتها لفترة زمنية غير معلومة. ومن ثمّ فإن مواقف دول مجلس التعاون الخليجي تمثل أهمية قصوى فيما سيترتب على ذلك الوضع الجديد لبحث حزمة ملفات متشابكة، تشمل الطاقة وأسعارها وتدفقاتها العالمية، كذلك سلاسل الإمداد التي تأثرت بالفعل وانعكس تعطل بعضها على تعثر عدد من الصناعات وارتفاع أسعار كثير من السلع.
بالإضافة إلى الجانب الأهم والأبعد مدى، وهو ما كشفته الأزمة من ثغرات واختلالات في طبيعة موازين القوى داخل النظام العالمي القائم.. بل ربما لا نبالغ إذا قلنا ما أكدته الأزمة من مرور النظام العالمي بمرحلة انتقالية.
ولعل هذه المسألة تحديدًا هي ما أكسبت لقاء وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا هذه المرة أهمية بالغة تتجاوز حدود العلاقات الثنائية.
فهذا الاجتماع هو الخامس في إطار اللقاءات الوزارية المستمرة بين الجانبين، لكنه يختلف كثيرًا في حساباته وتداعياته.
ففي الاجتماعات الأربعة السابقة، كان الهدف المشترك بين الجانبين توثيق العلاقات وفتح آفاق جديدة للتنسيق والتعاون مع روسيا العائدة إلى الشرق الأوسط، ودول الخليج التي تبحث عن تنويع علاقاتها الخارجية وتوسيع دائرة روابطها مع القوى الكبرى في العالم.
أما الاجتماع الأخير، فيمثل حلقة مهمة في سلسلة مشاورات تبدأ من الأزمة الأوكرانية بملابساتها والتصورات المختلفة لمعالجتها، وتشمل التداعيات المترتبة على الأزمة وتنسيق التحركات لمواجهتها، وتنتهي في النطاق الأوسع والمدى الأبعد، وهو تشكيل مشهد عالمي جديد، وربما نظام عالمي مختلف.
لهذا فإن المشاركة، التي تم ترتيبها لوزير الخارجية الأوكراني، ديميترو كوليبا، عبر تقنية الفيديو، مع وزراء الخارجية الخليجيين، مثلت خطوة نوعية، ليس فقط من زاوية محاولات تسوية الأزمة، وإنما أيضا لكونها مؤشرا مهما إلى دور عالمي يمكن لدول مجلس التعاون أن تلعبه مستقبلا في أزمات ومشكلات العالم، من مدخل الوساطة والحوار السياسي.
جدير بالذكر هنا أن هذه الوضعية الخليجية الجديدة قد بدأت تتبلور بالفعل.. بدليل أن أنظار العالم اتجهت نحو دول الخليج العربي أكثر من مرة مؤخرًا.. أبرزها عندما تولت الإمارات رئاسة مجلس الأمن مع بدايات أزمة أوكرانيا، والموقف المتوازن الذي اتخذته الإمارات من مشروع قرار غربي بإدانة العملية الروسية.. ثم تجسدت أهمية ومحورية دول الخليج العربي مرة أخرى عندما واجهت سوق النفط والغاز أزمة بين ندرة المعروض وارتفاع الأسعار ومعاقبة روسيا وتعويض النقص.
ورغم أن هذه الوضعية مثلت تحديًا لدول الخليج العربي، كونها تحرص دائمًا على الموازنة في علاقاتها والموضوعية في مواقفها، فإنها نجحت بشهادة الجميع في عبور تلك المواقف بهدوء وحكمة ومرونة. وهو ما تأكد بوضوح بالانتقال السريع والسهل من وضعية مواجهة التحدي المستجد بفعل أزمة أوكرانيا، إلى وضع الدول الفاعلة التي تضطلع بالوساطة لحل الأزمة، فتستضيف وزير خارجية روسيا في مباحثات جماعية مع نظرائه الخليجيين، بالتزامن مع مباحثات أخرى يجريها الوزراء مع نظيرهم الأوكراني لبحث سبل الخروج من الأزمة وإيجاد حل مُرضٍ لجميع الأطراف.
من الأمور، التي ينبغي إدراكها هنا، أن هذه الأهمية لدول الخليج العربي، إقليميا وعالميا، ليست مرهونة بالأزمة الأوكرانية، فدول الخليج العربي قامت وتقوم بتحركات مهمة ومحورية في إدارة أزمات الشرق الأوسط وقضاياه الكبيرة، سعيا إلى إقرار السلام والاستقرار في المنطقة، وذلك من خلال تصفية وتفكيك حزمة الخلافات والتوترات التي ضربت المنطقة في السنوات الأخيرة.
لقاء وزراء خارجية دول الخليج مع وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا، لا يمثل فقط تتويجًا لجهود ومبادرات خليجية ناجحة، لكنه أيضا خطوة لتأكيد وضعية إقليمية وعالمية اكتسبتها دول مجلس التعاون بموجب مقوماتها الذاتية وسياساتها المتوازنة وإدراكها الواقعي لذاتها وإمكاناتها وحسن تقديرها للتغيرات في العالم من حولها.