ارتبط الاقتصاد دائمًا بقدرة الإنسان على العمل والإنتاج بوجه عام، فبدأ الاقتصاد تاريخيًّا معتمدًا على الزراعة والرعي وتبادل المنتجات، وتطوَّر بمرور الوقت مع ظهور مجتمعات كبيرة ومنظمة.
فظهر الاقتصاد القائم على التجارة والسوق، وظهرت معه العُملات، وفُرضت الضرائب والمكوس “الجمارك” في القرون الوسطى.
وفي مرحلة لاحقة ظهر “الاقتصاد الإقطاعي”، الذي اعتمد على الملكيات الكبيرة والمزايا، وهو ما ساعد على الانتقال إلى عصور الاكتشافات الجغرافية، وتأسيس الشركات الكبيرة العابرة للقارات، وتطور مفاهيم الإدارة وأساليبها.
وتطور الاقتصاد في القرنين الماضيين مع ظهور الثورة الصناعية الأولى، وبروز المحرك البخاري، وما تلاه من تأسيس للمصانع والمتاجر الكبيرة، وإنشاء الدول الحديثة.
واستمر التطور والتحديث مع انطلاق الثورتَيْن الصناعيتَين الثانية والثالثة، ثم الثورة الرابعة أخيرًا، التي قادت العالم إلى الاقتصاد الرقمي، وجعلت الآلة الحاسوبية والإنترنت وسيلة للحياة.
وينقسم الاقتصاد الرقمي إلى قسمين أساسيين هما:
1. الاقتصاد الرقمي المباشر، وهو ناتج الأنشطة المُطوَّرة والمُنتَجة للأجهزة الحاسوبية والرقمية، وتطوير البرمجيات، وحصيلة بيعها وصيانتها، وخدمات ما بعد البيع، ويُمثّل نحو 20 في المئة من الاقتصاد الرقمي.
2. الاقتصاد الرقمي غير المباشر، وهو ما نحصل عليه برقمنة الأساليب التقليدية للإنتاج وتقديم الخدمات والأنشطة الاقتصادية، أو ظهور أنشطة جديدة تعمل بالإنترنت، ويُمثّل نحو 80 في المئة من الاقتصاد الرقمي.
ويُعَدّ الاقتصاد الرقمي بقسمَيْه من أسرع الاقتصادات نموًّا في العالم إذا قارنَّاه بأقسام الاقتصاد الأخرى، مثل الاقتصاد الزراعي أو الصناعي أو الخدمات. وبحسب ما جاء في مبادرة “الرؤية العربية للاقتصاد الرقمي”، التي أطلقها الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في نهاية عام 2018 بمدينة أبوظبي، برعاية صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، ستحتاج أي دولة تريد الوصول إلى نضج جيد، ونمو سريع، وفاعليَّة كاملة في الاقتصاد الرقمي إلى خمس ركائز هي:
1. البنية التحتية: تعني توافر مقومات شبكات الاتصالات المؤمَّنة والواصلة بسرعة وكفاءة معقولتين إلى جميع أنحاد البلاد، إضافة إلى التشريعات الكافية للعمل وفق مقومات الاقتصاد الرقمي.
2. تحفيز الإبداع والابتكار ودعمهما: يتمثّل في تسخير المعرفة لإيجاد ميزة تنافسية، وهو ما تُمكِن رؤيته مثلًا في تقييم شركة ناشئة تبدأ باستثمار يُقدَّر بمليون دولار في عامها الأول، ثم تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات في بضعة أعوام.
3. الحكومة الرقمية: تُظهِر دور الحكومة في دعم القطاع الخاص والفرد رقميًّا، وتشجيع الخدمات الرقمية على مدار الساعة، وتوفيرها لكل مواطن عن طريق هاتفه النقال.
4. الأعمال الرقمية: تُعَدّ الأساس الذي نسعى إليه، ومن أبرز مظاهرها التجارة الإلكترونية، واختراق التطور الرقمي جميع قطاعات الأعمال مثل التعليم والصحة والزراعة والصناعة وغيرها، بالاستفادة من إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي.
5. المواطن الرقمي: تهتم هذه الركيزة بتحقيق هدف الدمج الرقمي للمجتمع (Digital Inclusion) لغايات تحسين جودة الحياة، وتسهيل ظروفها، وتأمين خصوصية الفرد وحمايتها بالقانون.
ويبقى الإنسان هو أداة التطوير الرئيسية في عالم الاقتصاد الرقمي، فهو مصدر الإبداع والابتكار والتطوير، ومن غير التعليم الصحيح والوصول إلى المواطن الصالح الذي يسعى إلى تطوير بلده، فلن يكون كافيًا استيراد التكنولوجيا لإنجاز أهداف الاقتصاد الرقمي، وإنجاحه في تحقيق أي نمو اقتصادي ملموس.
وإذا أردنا النجاح وامتلاك اقتصاد رقمي متين ومستدام، وجب علينا تأهيل الإنسان المعرفي القادر على تحصيل العلم وتطويره لخدمة أمته ودولته، والانتباه إلى أهمية الاحتفاظ بالكفاءات ذات الخبرة والاختصاص واستدامتها، وليس تأهيلها فحسب، وذلك بتوظيفها التوظيف الأمثل، وإيجاد فرص عمل متكافئة تلائم تخصصاتها.
واليوم تتسابق دول العالم، ولا سيَّما المتقدمة منها، في إطلاق مبادرات وتقديم حوافز مُغرية جدًّا لجذب الكفاءات العلميَّة، وخاصة في مجال التكنولوجيا الرقمية، للهجرة إليها والاستقرار فيها. وما لم تَحْذُ الدول الأخرى حذوها، فستبقى في عجز مستمر عن بناء منظومات تنموية مستقرة ومستدامة.
نقلا عن “مفكرو الإمارات”