تشير الفترة الزمنية بين تصفية أسامة بن لادن، مؤسس تنظيم القاعدة، عام 2011، وتصفية أيمن الظواهري، الرجل الأول في التنظيم من بعده، إلى أن المخابرات المركزية اختارت توقيتا بالغ الأهمية لتنفيذ إتمام التصفية الأخيرة.
وجاء ذلك بإعلان الرئيس الأمريكي عن هذه العملية بعد عام من خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، خاصة أن السياسة الخارجية الأمريكية فشلت في تحقيق مكاسب سياسية طوال الأشهر الأخيرة، سواء في مناطق النفوذ، والشراكات الاستراتيجية، وفي أقاليم متعددة، بل ومع النطاقات الأوروبية، أو خارجها، حيث مناطق التمركز الأمني والاستراتيجي في جنوب شرق آسيا وفي المحيطين الهادي والهندي.
ومن ثم فإن المخطط، الذي تمارسه أجهزة المعلومات، خاصة المخابرات المركزية، هي أن تختار التوقيت والتنفيذ وفق منظومة أمنية واستخباراتية عالية المستوى، مع عدم الإشارة إلى تفاصيل ما جرى وترك الباب أمام تفسيرات عدة ومتنوعة، مثلما جرى في الحالة الأولى، تصفية “بن لادن”، وتكرر الأمر في تصفية “الظواهري”، إذ سيكون الرابح من وراء ذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، والذي أعاد تذكير الرأي العام الأمريكي بأن الولايات المتحدة ما تزال مسؤولة عن مواجهة الإرهاب والتطرف في العالم، والانتقام من تنظيم تعايشت معه منذ سنوات طويلة، إذ لم تتعرض الولايات المتحدة لعمل مشابه على غرار 11 سبتمبر.
ستوظف الإدارة الأمريكية الحالية تصفية “الظواهري” في تحقيق مكاسب سياسية كبرى لها داخل الولايات المتحدة وخارجها، إذ إن هذا الأمر سيؤدي إلى رفع شعبية “بايدن” قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، كما أنها ستؤكد أن الإدارة الأمريكية الحالية ما تزال مسؤولة عن مواجهة أي تهديد عالمي يمثله تنظيم “القاعدة”، الذي لم يقم بعمليات كبرى تهدد المصالح الغربية، بل ترك الأمر لتنظيم “داعش” في بقاع عدة من العالم.
اللافت أن قطاعات كبيرة من الرأي العام الأمريكي لم تعد ترى أن بلادها جادة في المواجهة بعد الإخفاق الأمريكي في الخروج من أفغانستان، وتعرض الهيبة الأمريكية لانتقادات طالت الرئيس جو بايدن، وأظهرته في موقف ضعيف لتتالي الإخفاقات في التعامل مع ارتدادات الحرب الروسية-الأوكرانية وتشكك الحلفاء في الناتو من الدعم الأمريكي، وذهاب فرنسا وألمانيا لتعريف الأمن الأوروبي وفق مقاربة مباشرة، ورفع نسبة إنفاقهما العسكري، وغيرها من الإجراءات.
ما يهمنا هنا ليس تأثير تصفية “الظواهري” في علاقات حركة “طالبان” بالإدارة الأمريكية، أو فيما سيجري من محاولة اصطياد قيادات أخرى بـ”القاعدة” موضوعة في قائمة المخابرات الأمريكية، وإنما الأمر متعلق بما هو قادم من خطوات قد تؤدي إلى تصاعد موجة العنف والإرهاب مجددا، وهو ما لن يغيب عن قيادات المخابرات المركزية، والتي قد تواجه مدًّا جديدا في إطار المواجهة مع تنظيم “القاعدة”، القادر على إفراز قيادات بديلة لن تتوقف عند تصفية “الظواهري” خلال تحرك التنظيم في الفترة الراهنة، خاصة أن استراتيجية التنظيم من المؤكد ستتغير في الفترة المقبلة لمواجهة استهداف قياداته، كما أن الإدارة الأمريكية ستتحسب لردود فعل التنظيم، كما ستعمد المخابرات المركزية لتأكيد قوة حضورها الأمني في المشهد الداخلي في إطار لعبة التوازنات الكبرى داخل النظام الأمريكي، وفي ظل مواجهات غير معلنة مع الخارجية والبيت الأبيض، بل ودوائر الأمن الاستخباراتي، والوكالات الفرعية والفيدرالية، والرسالة أن هناك ردود فعل متوقعة ومحتملة جراء ما جرى، وسيكون ذلك مرتبطا بما ستؤدي إليه التطورات الجارية في إطار علاقات المخابرات المركزية والعديد من شبكاتها العاملة في آسيا.. ما يؤكد تعقد وتشابك ما سيجري بصرف النظر عن الإشادات السياسية والأمنية في الدوائر الأمريكية بتصفية أيمن الظواهري.
تبقى التساؤلات مطروحة بعد تصفية “الظواهري”، وأهمها: هل يقدم تنظيم “القاعدة” على شن عملياتٍ انتقاما لتصفية “الظواهري”؟ وما موقعها ومسرح عملياتها؟ وما الأهداف القريبة من تنظيم “القاعدة”، الذي سيشهد مرحلة انتقالية مهمة قبل استقرار أوضاعه؟
سيكون لما يُعرف بـ”القيادة العامة لقاعدة الجهاد” -المفترض أنها تتخذ من الحدود الباكستانية الأفغانية مقرًّا لها مع امتداد لها داخل إيران- الكلمة الأولى في إطار المواجهة المقبلة، كما ستركز الاستخبارات المركزية على بعض الشخصيات الصاعد دورها في الفترة المقبلة، ومنها حسام عبد الرؤوف، المُكنّي بـ”أبو محسن”.
واللافت أن أغلب الأسماء الموجودة في قمة هرم تنظيم “القاعدة” مصريون، باعتبارهم ركيزة أساسية في هذا التنظيم، حتى في أيام أسامة بن لادن.. وبرغم تعدد الأسماء فإن فرص “سيف العدل”، محمد صلاح الدين زيدان، الأبرز في خلافة “الظواهري”، يليه أبو عبد الرحمن المغربي، مع تأكيد أن إدارة “القاعدة” تتم من خلال “لجنة حطين” وستستمر، وسيفتح ملف تصفية “الظواهري” الباب للولايات المتحدة لإيقاف أي دعم لقيادات “القاعدة” وتسليم المطلوبين وعدم توفير حماية لهم في الفترة المقبلة.
رغم كل ما سبق من تطورات، فإنه من المبكر أن نرسم سيناريوهات التعامل بين الجانبين في ظل ما يجري من تحديات محتملة لن تتوقف عند التصفية، بل تتعداها إلى ملفات أخرى في إطار التعامل الاستخباراتي الأمريكي لملف “القاعدة” بكل تفاصيله المتخمة، وفي ظل مخطط لإدارة “بايدن” بتوظيف ملف التعامل مع الإرهاب من خلال مقاربات صدامية مرتقبة، وبصورة مباشرة، خاصة أن الولايات المتحدة ستتعامل من الآن فصاعدا مع فروع منفصلة للتنظيم، في اليمن أو المغرب العربي، ومنطقة الساحل الأفريقي وشرق أفريقيا وسوريا.. وهذه الفروع تعمل بتنسيق معنوي مع التنظيم الرئيسي، ومن المتوقع أن يستمر “القاعدة” في اعتماد “لا مركزية القرار”، وهو ما قد يسبب إشكالية كبرى للمخابرات المركزية، لتبقى كل الخيارات والسيناريوهات قائمة.