عاد موضوع أمن الخليج العربي ليشغل من جديد مراكز البحث الغربية على خلفية الديناميكيات التي أفرزتها الحرب الروسية-الأوكرانية، وتتصاعد المخاوف كلما ارتفعت الحدة الصراعية بين الغرب الأطلسي وروسيا وحلفائها، خصوصا إيران والصين.
كما هو قد كُرر في التاريخ، تقوم دولة ترى أن لديها القدرة على فرض هيمنتها على الآخرين بقضم بعض الأراضي المجاورة، ويتسامح العالم مع ذلك إلى درجة معينة، ثم ينفجر الصراع.
حدث ذلك مع روسيا الاتحادية في شبه جزيرة القرم ومع الصين في هونغ كونغ، إلا أن الذهاب أبعد من ذلك يثير ردة فعل تصل إلى مرحلة الحرب.
وما نشاهده اليوم من استقطاب عالمي هي حرب في ثياب صراع حاد واحتمال أن يتفاقم.
روسيا اخترقت ما استقر من ثوابت في القانون الدولي وهو “اجتياح، ومن بعده ضم أراضي دولة أخرى”. كان ذلك محرمًا بعد أن عانى العالم ويلات الحروب جراء تلك التصرفات التي أطلقت حربين عالميتين اكتوى العالم بفظائعها.
أين الخليج، وبالتالي مجلس التعاون من تلك الصورة؟
الصراع بين روسيا والغرب الأطلسي في أوكرانيا أطلق ما أصبح معروفًا من عقوبات قاسية على روسيا أثرت بشدة في الاقتصاد الروسي، إلا أن تلك العقوبات خلقت في الوقت نفسه “نتائج مرتدة” على الاقتصاد في دول الحلف، مما تسبب في ارتفاع الأسعار والتضخم شبه المنفلت، خصوصًا ارتفاع أسعار الطاقة “نفط وغاز”.
ترغب روسيا في هذا الصراع أن “تحرم دول حلف الأطلسي” من أي فائض للطاقة، وترغب من جهة أخرى دول الحلف أن تتوفر مصادر أكثر يُسرًا للطاقة لتخفيف النتائج المرتدة للعقوبات.
تلك أهداف المتصارعين، وهي متناقضة، ولأن دول الخليج هي أحد أهم مصادر الطاقة في الوقت الحالي وربما القريب، فإنها محط الصراع، وقد وجدنا في الأشهر الأخيرة أن المنطقة أصبحت “محجة” لكبار القوم من الجانبين، كلٌّ يرغب أن تكسب وجهة نظره السباق.
ليس سرًّا أن دول الخليج في مرحلة صعبة بين الطرفين، كما أن صراعهما ليست له نهاية قريبة، بل له تداعيات دولية، والانحياز هنا أو حتى الحياد المُضر لطرف قد يطلق تداعيات أمنية خطيرة على المنطقة، إذا أخذنا في الاعتبار ما سنّته الحرب على أوكرانيا من سابقة، وهي أن أي ادعاء لمصالح في الجوار يمكن أن تكون ذريعة للقفز على ذلك الجوار.
والجوار الخليجي لا يخلو من تلك القوى، التي تدّعي لأسباب مذهبية وتاريخية أو مصلحية أن أمنها مهدَّد ما لم تغيِّر في تركيبة الجوار، وفي الذهن كلٌّ من إيران وتركيا وحتى إسرائيل.
وأي قوة من القوتين المتصارعتين ترى أن مصالحها قد تضررت بشكل كبير، وهي في مرحلة حرب، لا يستبعد أن توعز لأيٍّ من قواها الحليفة أن تعبث في الجوار الخليجي، إما من خلال إثارة مشكلات داخلية من المعروف أن لها أذرعًا فيها، وإما من خلال اضطراب أمني في إمدادات النفط الدولية مثل إغلاق المرور لمضيق هرمز.
بعض مراكز البحث في تصوراتها للمستقبل الأمني في الخليج تعتمد على دراسة متغيرَيْن:
الأول، أن أسعار النفط ستكون على مستوى معقول من الارتفاع، ولكنها لن تبقى مرتفعة، فهناك جهد جدي وتقني في البحث عن البدائل في دول الأطلسي، وهي متعددة، منها الطاقة النووية “النظيفة”، ومنها مصادر أخرى في أماكن مختلفة في العالم، ومنها طبعًا الطاقة المتجددة.
وتتجه تلك المجتمعات بالفعل إلى الاستبدال السريع لمصادر الطاقة، واليوم لا يخلو مرآب سيارات في البنايات الكبيرة أو تجمعات التسويق في الغرب من محطات شحن كهربائي للسيارات.
المحصلة أن النفط لن يكون بتلك القيمة التي وصل إليها في السنوات الثلاث الأخيرة، كما أن أسعار السلع والخدمات سوف تظل على مستواها العالي، والمعادلة النهائية أن أموالاً أقل سوف تدخل خزائن دول الخليج المنتجة للطاقة، وفي الوقت نفيه مبالغ أكبر تحتاج إليها الشعوب للوفاء بالمستوى نفسه من المعيشة، مما سوف يطلق أزمات اجتماعية وسياسية، خصوصًا أن الخطط البديلة في عدد من هذه المجتمعات تعمل بكفاءة أقل بسبب الثقافة الإدارية السائدة ومستوى الاستهلاك المرتفع، وانتشار الفساد في بعضها.
الثاني، أن سابقة أوكرانيا -وربما تايوان- سوف تفتح شهية القوى المتوسطة في الإقليم لمد نفوذها، إما باحتلال سافر وإما بهيمنة مغلّفة بأغلفة، منها مذهبي ومنها مصلحي ومنها استباقي.
في الذهن القوة الإيرانية التي ترتكز على نصوص في وثائقها الرسمية “الدستور” أو قصص التاريخ السابق على “أحقيتها الشرعية” في الهيمنة، وتخلط “بنجاح” بين الدولة وسياستها والمذهب، وتستخدم قوى داخل المجتمعات المجاورة “اختلط عليها مفهوما الأمة والوطن” كي تجنّدها لتوسيع نفوذها.
تركيا ليست بعيدة عن استخدام الفرصة التي هيّأتها السيولة في المشهد العالمي، ليس فقط لمد نفوذها في الجوار “شمال العراق وشمال سوريا”، بل استقطاب جماعات لاستخدامها في حروبها في أماكن أخرى من ليبيا وأذربيجان، السيولة في المشهد الدولي تستفيد منها إسرائيل ويدها الطويلة والتي لا يبدو أنها تهتم أو تقيم وزنًا لما يسمى “القانون الدولي”، فالواضح أن الكل يريد أن يستفيد، متحالفًا مع آخرين، من الفرصة التي وفّرتها ذريعة الحرب في أوكرانيا.
أمام تلك التحولات لا يوجد جهد سياسي على الأرض أو حتى بحثي من خلال مؤسسات ومراكز خليجية للحديث عن تصورات “كونفيدرالية” تخلق المناعة الأمنية للمجموع، حيث إن عددًا من دول الخليج غنية، وفي الوقت نفسه تفتقر إلى المساحات في الأرض والوجود البشري الكثيف حتى يكون الاعتماد أحاديا، أما المخاطر فإن أي دولة في الإقليم يتم اختراقها، بالضرورة سوف يفيض ذلك الاختراق على الدول المجاورة بكل سوءاته.
والاختراق ممكن في بعض تلك البلدان، كما نشهد يوميًّا في وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى تدريب وتسليح ودعم إعلامي مشهود.
المؤسف أن هذا الموضوع الخطير، والذي يناقَش على رؤوس الأشهاد في المؤسسات البحثية الخارجية مسكوت عنه في مؤسسة مجلس التعاون، مع أن ذلك من صُلب أعمالها لتكوين تصور مشترك بين نخب الخليج فيما يخص المخاطر المحيطة بأوطانهم، فمن الأفضل نقل موضوع أمن الخليج في مؤسستنا من “الموقد الخلفي” إلى “الموقد الأمامي” ذي الأولوية القصوى.
آخر الكلام: الظاهرة المنتشرة هي استخدام العرب لتحقيق “الأهداف القذرة لقوى الإقليم”… محاولة قتل سليمان رشدي آخر المظاهر تلك ولن تكون الأخيرة.