سياسة

أردوغان.. من سبي عفرين إلى عسكرة إدلب


يمعن النظام التركي في سياسته التوسعية ونزعته العدوانية. إما بشكل مباشر كما يحدث حالياً من خلال دفعه مزيداً من جنوده وآلياته العسكرية بمختلف صنوفها نحو مدينة إدلب السورية، والذي لم يتوقف أساساً منذ فترة زمنية بعيدة، وإما باعتماده على مرتزقته الذين أضيفت إلى سجلهم فضيحة “السبايا” من النساء الكرديات السوريات اللواتي امتُهنت الكرامةُ الإنسانية لعشرات منهن بعد اختطافهن من قبل المجموعات المسلحة التابعة له في مدينة عفرين السورية وزجّها في ميدان الصراع الليبي لمصلحة أجندته العدوانية.

لم يعد التأكد من دوافع أردوغان المبيتة في إدلب أمراً صعب التحقق بعد أن كرس جهوداً كبيرة، عسكرية وسياسية وأمنية، للحفاظ على هذه الأرض السورية مضماراً لتحقيق أوهامه بإقامة إمارة إسلامية تسبح في فضائه وتترجم أحلامه، ورغم جميع التفاهمات والاتفاقات مع الجانب الروسي بشأن آخر بقعة جغرافية يحتلها بجيشه الرسمي ويتمترس فيها مرتزقته فإنه يتملص بين الفينة والأخرى من الالتزامات والتعهدات، التي ما إنْ تجد طريقها إلى التطبيق حتى تكون بدايةَ النهاية لوجوده العسكري الاحتلالي ولبقايا مرتزقته، لكنه يلجأ إلى نسف كل التفاهمات كونها السبيل الذي يتيح له الاستمرار في أوهامه المتعلقة بمشروعه التوسعي، متجاهلاً أنه محتلٌّ لأرض دولة مستقلة ذات سيادة وفق تصنيف القانون الدولي من جهة، ومتجاهلاً مصالح عدد من الدول الإقليمية والدولية المرتبطة بسوريا من جهة أخرى.

كثيرة هي البراهين التي تدحض ادعاءات الرئيس التركي بشأن إصراره على احتلال مدينة إدلب، بعضها تركي داخلي، وأخرى واقعية قانونية وسياسية، أما الداخلية منها فتتمثل بالأصوات المتنامية المعارضة لاستمرار احتلاله أرضا سورية وما ترتب على ذلك حتى الآن من تبعات سياسية وأمنية واقتصادية وإنسانية، فالوضع الاقتصادي التركي يتصدع بفعل الاستنزاف الذي تفرضه سياسته التوسعية؛ حيث أشارت حصيلة عام 2020 إلى عجز اقتصادي بلغ خمسين مليار دولار، والليرة التركية تهوي نحو الحضيض، والادعاء بحماية اللاجئين السوريين ومساعدتهم داخل تركيا وفي المناطق السورية التي يحتلها والتي يتبجح بها أمام مريديه، تدحضه الممارساتُ الشائنة التي ينفذها جنوده ومرتزقتهم ضد السوريين في المناطق السورية الخاضعة لاحتلاله من جانب، والاضطهاد والعنف اللذان يعانيهما معظم اللاجئين السوريين جراء الإجراءات العنصرية في بعض المدن التركية من جانب آخر، فضلا عن توظيف ورقة اللاجئين في ابتزاز العالم.

وحين يُماط اللثام اليوم عن فضيحة “السبايا” من النساء الكرديات السوريات فذلك يعيد إلى الأذهان سلوكيات وممارسات متأصلة في ذهنية النظام العثماني، الذي يمثل أردوغان امتدادا تاريخيا له. هل يستطيع أردوغان وزبانيته طمس حقيقة كون إدلب مدينة سورية؟ هل يعتقد أن الدولة السورية ستسلّم له بأمر احتلاله العلني لها وتقف مكتوفة الأيدي أمامه؟ هل يغفل العثماني الجديد عن وجود مصالح عربية وإقليمية ودولية متضررة جراء سياسته عامة واحتلاله مدينة سورية بشكل خاص؟ إلى أي مدى يمكن للدولة السورية الساعية بكل ما تحوزه من إمكانات وعلاقات ومقومات أن تسمح للمحتل التركي بإجهاض قرارها وتوجهها لاستعادة سيطرتها وسيادتها على كامل التراب السوري ممثلة بإدلب ومحيطها كآخر جيب خارج سيطرتها؟ ألا يُلزم القانونُ الوطني سلطات أي دولة بزج جميع إمكاناتها دفاعا عن سيادتها واستقلالها؟

جميع المعطيات الراهنة تشير إلى مواجهة قادمة بشأن إدلب، فالدولة السورية ورغم كاهلها المثقل بشتى أنواع الصعاب فإنها تنطلق في سياستها من محورية واجبها ودورها في ضرورة إنهاء الوجود التركي المحتل بأشكاله العسكرية والسياسية والأمنية على أراضيها، بهدف طي صفحة عشْرية دامية ضربت البلادَ والعباد، ثم التوجه نحو استعادة زمام المبادرة وإطلاق عجلة الحياة تدريجياً على المستويين الداخلي والخارجي، وهي تدرك أن المماطلة والتردد في معالجة هذا الملف لا يصب في مصلحتها، لا من حيث الظروف ولا من حيث الزمن، كما تدرك أيضاً أن بقاء إدلب خاصرة استنزاف لا تصب في مصلحة الأطراف جميعها.

لم تعد مناوراتُ النظام التركي في حاجة إلى تمعّن عميق لفهمها وإدراك بواعثها وأهدافها، وحين يتناوب أركان حكمه على تبرير النهج التوسعي بالادعاء أن إدلب تمثل جدار استناد في استراتيجية أنقرة لردع “النظام السوري ومنعه من استعادة السيطرة على إدلب حماية للأمن القومي التركي”، كما يزعمون، فهم يتماهون مع صيغة عدوانية بنكهة استعمارية متغطرسة ضد بلد جار مستقل ذي سيادة من طرف، ومن طرف آخر يكشفون عن قصور سياسي وأخلاقي في احترام سيادة الدول، ويعكسون ظاهرةً خطيرة حديثةَ العهد في العلاقات بين الدول.

لن يتمكن أردوغان من الركون إلى أحلامه بالسيطرة النهائية على هذه المدينة السورية طال الزمن أو قصر، وإذا كانت تفاهماته مع موسكو حيالها تمده بشيء من ذلك الوهم، فإن المتغيرات المرتقبة أيّاً كانت وجهتها وسياقاتها، ستفرض مسارات أخرى تؤثر بصيغة ما على الوضع القائم الذي فرضته سياسات سابقة لهذا الطرف أو ذاك، عدا عن أن المصالح المتجددة والمتحولة للدول، خاصة بين اللاعبين المنخرطين في الوضع السوري، تتطلب مقاربات جديدة، وقد يكون بعضها مغايراً لما تم اعتماده في مراحل ومحطات سابقة فقدت بريقها وقدرتها على تلبية الاحتياجات راهناً ومستقبلا.

حتمية المواجهة العسكرية لا مفر منها في حال فشلت السبل الدبلوماسية والسياسية في إنهاء الوضع القائم في إدلب لمصلحة سيادة الدولة السورية، وهذا الخيار يمتلك مشروعيته من بعدين: الأول أن الانتقال إلى آفاق سورية جديدة تطوي صفحة العشْرية الدامية تقتضي ذلك، أما البعد الثاني فمرتبط بتوجسات أردوغان من خسارته لركيزة أساسية في مشروعه التوسعي؛ فدفع بمزيد من جنوده وعتادهم تحسباً لذلك بعد تمكن الجيش السوري من تحقيق مكاسب ميدانية واسعة، وللإيحاء بوجوده وتأثيره على الملف السوري أيّاً كانت مساراته ميدانية أم سياسية، علاوة على نيته الإبقاء على سياسة الضغط والابتزاز من خلال تحكمه بالطرق الرئيسية التي تربط شرق سوريا بغربها، والتي تمر بمحاذاة المناطق التي يحتلها، وكل ذلك ضمن حساباته الشخصية التي لا تعني الدولة السورية من قريب أو بعيد عندما تحين لحظة الحقيقة والواجب.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى