سياسة

أردوغان واختبار الإرادات


عودةُ بلدة “عين عيسى” إلى واجهة الأحداث في المشهد السوري الراكد ميدانياً منذ عدة أشهر، وغير الساخن سياسياً لأسباب متنوعة.

منها عدمُ الاهتمام الدولي الجاد بإنهاء الأزمة السورية التي تطوي عشريتها الدامية قريبا، ومنها أولوياتُ المجتمع الدولي التي باتت رهينةَ وباء كورونا وتَحَوّراته وتفاعلاته والانشغال بالعمل على الحد من مخاطره؛ كل ذلك لم يحجب رؤيةَ سحب الدخان المنبعثة من تلك البقعة الجغرافية شمال سوريا جراء القصف التركي العنيف والهجوم الذي نفذته مؤخرا وترافق مع حشود عسكرية تركية وأخرى من فصائل المعارضة السورية المسلحة التي تأتمر بأوامر تركيا – أردوغان، وسرعان ما فضحت تلك التحركات النوايا المبيتة من قبل الرئيس التركي وكشفت عن بواعث عديدة تُحركُه، أولها التأكيد على وجود أطماع توسعية لديه داخل الأراضي السورية وفي عمقها حيث تقع بلدة “عين عيسى”، بحججٍ وذرائع لم تعد تنطلي على ذي بال، وثانيها جس نبض الجانب الأمريكي الذي رسم خطوطاً واضحة أمام أردوغان حيال عموم منطقة شرق الفرات السوري، وثالثها معرفة رد فعل واشنطن في مرحلة أشبه بالانتقالية تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية حيث يتهيأ الديمقراطيون بزعامة بايدن لاستلام السلطة من ترامب الجمهوري، واستغلال هذه الفترة لتحقيق بعضٍ من أهدافه ولو بشكل جزئي في لحظة تأرجح الموقف الأمريكي حسب اعتقاده، ورابعها استباق انخراط إدارة بايدن الفعلي في ملفات السياسة الخارجية ومنها سوريا في ظل مؤشرات على عدم الانسجام مع سياسة أردوغان في المنطقة، تتجمع وتتراكم استناداً إلى المواقف المعلنة من قبل الرئيس الديمقراطي القادم إلى البيت الأبيض، أما خامسها فيتمثل في نهج أردوغان القائم على إبقاء حالة التوتر قائمة في تلك المنطقة التي تتشابك فيها الكثير من الخيوط وتتعارض عليها وبشأنها مصالح الكثير من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، فهو يرمي من وراء ذلك إلى البقاء ضمن المشهد وابتزاز جميع الأطراف .

يدرك أردوغان أن تحركاً عسكرياً باتجاه تلك المنطقة محفوفٌ بكثير من المخاطر وهو أقرب إلى المغامرة في ظل معطيات واقعية لا يمكن القفز فوقها؛ بعضها متعلقٌ باحتمالات المواجهة العسكرية مع الجيش السوري المنتشر قريبا من تلك المنطقة من جهة، واستعداد القوى الكردية السورية لمواجهة الزحف التركي من جهة أخرى، ما يجعل إمكانية فتح جبهة واسعة ضده وارداً بعد أن أيقنت الأطراف كلها أن الخطر التركي يشكل تهديداً للجميع، يضاف إلى ذلك موقفُ الضامن الروسي الشريك لتركيا في اتفاقات سوتشي وتفاهمات آستانة المتعلقة بسوريا والتي أكدت بوضوح رفضها لأي أعمال عسكرية تهدد وحدة واستقلال سوريا وسيادتها، تلك الاتفاقيات والتفاهمات وضعت أطراً سياسية للتعامل مع المسألة السورية عموما، وبعض المناطق، مثل إدلب بشكل خاص، وهي اليوم معنية، بسبب تلك الاتفاقات والتفاهمات ومبادئها، بمنع انهيارها جراء مغامرات الجانب التركي، ومعنية أكثر بتجنب الانزلاق إلى حالة من الفوضى يسعى الرئيس التركي إلى تفجيرها مجدداً لاستغلالها في توسيع دائرة احتلاله للأراضي السورية .

التردد الذي شاب مغامرة أردوغان تجاه بلدة “عين عيسى” كشف جانباً مهمّاً من تكتيكه الهادف إلى اختبار إرادة الآخرين من شركائه ومن خصومه على حد سواء، لكنّ ذلك الترددّ لا يعني أنه تراجع عن نواياه المبيتة أو طوى صفحة نزعته التوسعية، بل يبدو أن الجولة الاختبارية التي نفذها أفصحت له عن وجود متاعب لا طاقة له على تحملها، وعن تبعات ميدانية وسياسية لا تقتصر على ميدان المعركة المفترضة بل تتعداها إلى حسابات سياسية واسعة ستنعكس سلباً على مجمل علاقاته، وقد تؤسس لافتراقات حادة بينه وبين كثير من الحلفاء من بينهم واشنطن .

أهمية هذه البلدة السورية التابعة لمحافظة الرقة شمال سوريا تتأتى من وقوعها على الطريق الواصل بين محافظة حلب شمالا ومحافظة الحسكة في الشمال الشرقي وصولا إلى الحدود العراقية الغربية، وهي أيضا منفذ باتجاه الحدود السورية الشمالية وصولا إلى الجنوب التركي، وفي محيطها يمر طريق ” م 4 ” الذي لم يعد يشكل معبراً للمرور والتواصل فحسب ؛ بل اكتسب صبغةً سياسية رمزية في ظل الوضع السوري الراهن، علاوة على أهميته في وصل الداخل السوري بمدينة اللاذقية الساحلية، ولذلك حاول أردوغان إثارة الغبار في محيطها وبث رسائله بهدف خلط الأوراق بعد التقدم النسبي الذي حققته الدولة السورية في التفاهم مع القوى الكردية السورية الموجودة في المنطقة للعمل معاً في مواجهة الاحتلال التركي ومشروع أردوغان العدواني التوسعي الذي يسعى لتحقيقه على حساب سيادة سوريا .

لن يكون بمقدور موسكو اتخاذُ موقف المتفرج بشأن تطورات الموقف في بلدة “عين عيسى” وتداعياته المحتملة هذه المرة باعتبارها مضماراً سورياً معنيةً به بشكل مباشر ويتمتع بمواصفات حيوية على المستوى الجيوستراتيجي بالنسبة لها ولمصالحها حتى لو اضطرت إلى اتباع تكتيك مغاير لما اعتادت على سلوكه مع أردوغان دون الذهاب إلى حدود المواجهة أو القطيعة معه، ويبدو أن موسكو سعت إلى لجم اندفاعة أردوغان عبر حضورها المباشر على خط الأزمة قبل تفاقمها، حيث وجودُها الرمزي عسكرياً هناك عبر عدد من القواعد العسكرية الصغيرة قد يصبح مهددا، وهذا ما فهمه الجانب التركي فأوقف عدوانه بانتظار ما ستحمله الأيام المقبلة من صيغ، ميدانية أو سياسية، لمواجهته في تلك المنطقة، إضافة لحسابات أخرى لديه متعلقة بمعرفة طبيعة رد الفعل الأمريكي، إذ تشكل محاولات أردوغان تطاولاً وتعدياً على مصالحها . في الجولة الأولى من “اختبار الإرادات” في بلدة “عين عيسى” أخفق أردوغان في نيل مبتغاه سواء في اقتحام البلدة واحتلالها، أو في تثبيت نقاط ارتكاز تمنحه لاحقا فرصة الهيمنة عليها، لكنه نجح في إيقاظ وتنبيه الجميع إلى ما يضمره من نوايا وما يخطط له بشأن تلك المنطقة السورية من أهداف تتجاوز نطاق العدوان واحتلال الأرض؛ لتلامسَ تهديدَ مصالح حلفائه وشركائه الدوليين .

العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى