تتجادل عدة دول أوروبية حول السبل المُثلى لمواجهة قوارب الهجرة.. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: أين الأمم المتحدة؟
القوارب المتداعية، التي يستخدمها المهربون لعبور اليائسين، كثيرا ما تتعرض لحوادث تؤدي إلى غرق مَنْ فيها، حتى ابتلع البحر عشرات الآلاف من الضحايا. وهناك سفن نجدة تابعة لبعض دول الاتحاد الأوروبي تتكفل بعمليات إنقاذ إنسانية لا مفر منها، ولكنها تنقل اللاجئين إلى شواطئ لا ترحب بهم، وتعتبرهم عبئا، وتتوسل شتى الوسائل لكي تتخلص منهم.
الأوروبيون أوجدوا سبيلا فيما بينهم من أجل إعادة توزيع اللاجئين، بحيث لا تكون دول الشاطئ الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط “ضحية” دائمة لتدفق اللاجئين. إلا أن قوارب المهاجرين لم تتوقف، ولم تبدُ محاولة التنسيق الأوروبية كافية لمعالجة الضغوط.
اتفاقية جنيف لعام 1951، وبروتوكولها لعام 1967، هما منجز إنساني لا يمكن التخلي عنه، ويتعين دعمه باستمرار، لما انطوى عليه من قيم لمواجهة أعتى أشكال الاضطهاد. وهي تصف اللاجئ بأنه “شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد”.
هذا الأمر كان يمكن أن يشمل الملايين ممن فروا من بلدانهم بسبب اندلاع حرب أهلية، أو بسبب أعمال اضطهاد عرقي أو ديني. وظل بوسع المجتمعات الأوروبية أن تستوعبهم دون عثرات، بسبب الطبيعة الظاهرة للأزمات التي تدفع إلى تدفق موجات من اللاجئين. ولكن أوروبا تقف أمام نموذج جديد لطلب اللجوء بات يُعرف بـ”الهجرة لأسباب اقتصادية”.
هذا النمط من اللجوء لا يشمل إلزاما قانونيا، ما يبرر لدول الاستقبال أن تعيد طالب اللجوء إلى موطنه. ولكن العادة جرت على أن طالب اللجوء الاقتصادي لا يصرح بدوافعه الحقيقية، فيقول، بدلا عنها، إنه يطلب اللجوء لأسباب من النوع الذي يندرج في إطار اتفاقية جنيف وبروتوكولها.
بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، تحاول استيعاب هذا النمط من الهجرة، لأسباب براجماتية، تتعلق بالحاجة إلى أيدٍ عاملة رخيصة، فتوفر لطالبي اللجوء الفرصة للانخراط في المجتمع وتعلم اللغة وإيجاد عمل، فيكفّ اللاجئ عن أن يكون عبئا على الأقل، إن لم يتحول إلى مكسب ضرائبي. ولكن دولا أخرى، مثل إيطاليا واليونان وبريطانيا، ضاق بها الذرع، إما لأن لديها معدلات بطالة عالية، وإما لأن توازنها السكاني من ناحية الأعمار ليس مختلا، أو لأنها تعاني من أزمات اقتصادية ولا تتوفر لها القدرات لرعاية اللاجئين، أو منحهم الفرصة للاندماج.
اللاجئون الذين يركبون غمار البحر، لا يفهمون هذا الواقع. وليس مطلوبا منهم أن يفهموه أيضا. ضحايا الأزمات غالبا ما تعنيهم مآسيهم الخاصة، ولا تعنيهم أسبابها أو مَن هم الذين يوفرون الحلول لها.
عبء الفهم وتوفير الحلول إنما يقع على الأمم المتحدة، وليس حتى على دول بعينها. ومن الغريب ألا تكون هناك سفن إنقاذ أممية تتولى ما تقوم به بعض المنظمات الخيرية أو القوات البحرية التابعة لدول دون أخرى.
الهجرة واحدة من أقدم مظاهر التاريخ الإنساني. وموجاتها هي التي صنعت التداخل الحضاري بين الأمم. ويستطيع المرء أن يزعم أنه ما من قوة على وجه الأرض تستطيع وقفها. ولكن تتوفر لدى المجتمع الدولي القدرة على تنظيمها. وهذا دور يجب أن تؤديه الأمم المتحدة.
يجب الاعتراف أيضا أنه لا العنف، ولا الإعادة القسرية، ولا الإهمال المتعمد، سوف يؤدي إلى تراجع أعداد المهاجرين. البحث عن أي وسيلة للعيش في مواجهة الجوع، أو البحث عن الأمان في مواجهة الخوف، تظل عناصر ضاغطة أقوى مما يمكن أن تفعله المعاملة غير الإنسانية، التي يتلقاها طالبو اللجوء. وهنا أيضا، فإن الأمم المتحدة هي وحدها المؤسسة الدولية التي يمكنها أن توفر البديل اللائق.
معسكرات اللجوء يجب أن تقع تحت إدارة دولية. هذه هي الخطوة الأولى. وبدلا من النسق الأوروبي لتقاسم الأعباء، فإن الضرورة سوف تقتضي إيجاد نسق دولي، لتقاسم الأعباء وتوزيع طاقة الاستيعاب.
القاعدة الأساس في هذا المسعى هي أن اللاجئ -لأسباب اقتصادية- يملك حق الحصول على الحماية، إلا أنه لا يملك الحق في اختيار الدولة التي توفرها له.
بعض الدول قد تطلب استيعاب أنواع منتخبة من اللاجئين، حسب الأعمار أو المؤهلات، ويمكن لمؤسسة رعاية دولية تُعنى بتنظيم عمليات الهجرة أن توفرهم. وما من دولة من دول العالم إلا وتتوفر لها القدرة على استيعاب عدد منهم. بل إن نوعا من تنظيم استقبال العمالة المهاجرة، على أساس مواءمات تتناسب مع القوانين المحلية، يمكن أن يوفر سبيلا لامتصاص الدوافع للقيام بمغامرات انتحارية في عرض البحر من أجل الحصول على فرصة أفضل للحياة.
تقاسم الأعباء، على أساس أممي، قد يكون هو الحل الأمثل. وإيجاد مكتب أممي لتسجيل طلبات الهجرة الاقتصادية، وتقاسم اللاجئين، سيكون بديلا أنسب من قوارب المهربين.