تونس: هل يصنع الخوف تحالفات “النهضة”؟


مرّةً أخرى، أعادت حركة النّهضة الإسلامية خلط الأوراق داخل الساحة السياسية التونسية، فوضعت قدماً في كلّ الخيارات، وقفزت بين القرارت، ثمّ هدّدت بإمكانية إجراء انتخاباتٍ برلمانيةٍ مبكّرةٍ، في حال لم تشمل حكومة إلياس الفخفاخ، الذي كلّفه رئيس البلاد قيس سعيّد حديثاً، “شريكها اللدود” حزب قلب تونس العلماني، ولم تتشاور معه، بعد أن شّددت على أنّها لن تتشاور أو تتحالف معه واتّهمته بالفساد خلال حملاتها الانتخابية.

موقفٌ لم يثر استغراب الفاعلين السياسيين في تونس، ولا متابعي الشأن المحلي، باعتبار أنّ الحركة اعتادت سياسة الأيادي المرتعشة، والقرارات المرتبكة، التي يحكمها خوفها الشديد من إقصائها من المشهد السياسي، أو استئصالها من السلطة، خاصّةً بعد توسّع دائرة الرافضين للتعاطي معها سياسياً، ولا برلمانياً.

فوبيا الاستئصال
وكان مجلس شورى الحركة قد دعا، في بيانٍ، إلياس الفخفاخ، المكلف بتشكيل الحكومة، إلى “توسيع المشاورات لتشمل مختلف الكتل النيابية، لتوفير حزامٍ سياسي واسعٍ مثلما ورد في نص التكليف الصادر عن رئيس الجمهورية، بما يضمن الوصول إلى حكومة وحدةٍ وطنية ذات مضمونٍ اجتماعي ديمقراطي”.

وأفاد البيان أنّ مجلس الشورى يوصي المكتب التنفيذي بالتهيؤ لكل الاحتمالات بما فيها الانتخابات السابقة لأوانها على أن يبقى المجلس في حالة انعقادٍ دائم.

وقد أثار ذلك غضب قواعد الحركة التي تقلّصت أساساً من مليونٍ ونصف المليون، إلى نصف مليونٍ فقط، خاصّة أنّ قلب تونس محط انتقادٍ واسعٍ، بسبب الاتّهامات التي تلاحق مؤسّسه نبيل القروي بالفساد وتبييض الأموال؛ إذ اعتبر المفكر التونسي والباحث في مركز الدراسات والبحوث في وحدة الإرهاب والتهريب التابعة لوزارة التعليم العالي سامي براهم، والمحسوب على حركة النّهضة، أنّ معركة النهضة ضدّ الإقصاء والاستئصال بمثابة العُقد والفوبيا.

وقال براهم في تدوينة وُصفت بـ “تدوينة المنعرج”، خاصّة أنّه لم يعتد انتقاد النهضة بهذا الشكل سابقاً، إنّ الوهن وضعف الأطر الديمقراطيّة حجبا الرّؤيا والبرامج التي تستجيب إلى تطلّعات الشّعب، وانتقد من خلالها ما اعتبره فشل “الإخوان في مصر لأنّهم عقلٌ جامد وفكرٌ جامد وخطابٌ جامد وتنظيمٌ جامد وأداءٌ سياسيّ جامد”.

من جانبه، اعتبر المحلّل السياسي باسل ترجمان أنّ بيان مجلس شورى الحركة يعكس تخبّطاً في التعاطي مع الشكل الذي يريده رئيس البلاد قيس سعيّد، لإدارة الحكم، لافتاً إلى أنّ خيارات الفخفاخ تعبّر بشكلٍ كبيرٍ عن رؤى قيس سعيّد، التي لا يمكن بأيّ شكلٍ أن ترضي حركة النّهضة.

وأضاف ترجمان في حديثه لـ”حفريات”، أنّ “النّهضة لا تبدو مستعدّةً للتراجع عن الوزارت التي تعتبرها حمايةً لها، وأنّها تضع كلّ الاحتمالات الممكنة بما فيها انتخاباتٌ مبكّرةٌ، من أجل أن يكون بيدها أكبر عددٍ ممكن من أوراق الضغط على إلياس الفخفاخ، ومن عيّنه (قيس سعيّد).

عقدة الخوف
وتتخّذ حركة النّهضة منذ أوّل انتخاباتٍ تشهدها تونس بطريقة ديمقراطيةٍ مباشرة بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، من التوافق مع باقي الأحزاب، سياسة للحفاظ على بقائها في السلطة، وعلى تموقعها داخل المشهد، إذ تحالفت مع كلّ الأحزاب التي تخالفها في التوجّه على غرار التكتّل اليساري، وحزب المؤتمر، فضلاً عن نداء تونس العلماني.

ويرى مراقبون أنّ سياسة الاختباء وراء شركائها في الحكم، ورمي فشلها عليهم، مكّنت النهضة من الاستمرار حتّى اليوم، برغم ما يحكمها من مخاوف الإقصاء، خاصّةً أنّ جبهة الأحزاب المعارضة لها ولسياساتها، توسّعت بشكلٍ كبيرٍ خلال الانتخابات الماضية، حتّى أنّها فشلت للمرّة الأولى منذ 2011، في تجميع أكثر من سبعين صوتاً.

وترفض أغلب الأحزاب المكوّنة للبرلمان، بما فيها الكتل والائتلافات التي تتّبع توجهاتٍ إسلاميةٍ، التشاور مع النّهضة، أو التحالف معها، تحت أيّ غطاء، فيما يعتبر الحزب الحر الدستوري، التحالف مع النّهضة يرتقي إلى مستوى الخيانة، وتعمل رئيسته عبير موسي منذ دخولها البرلمان على تكوين حزامٍ مدني مناهضٍ لها.

في هذا السياق، يرى رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية حول المغرب العربي عدنان منصر، أنّ ما يحرّك حركة النّهضة لبناء تحالفاتها السياسية، هو عقدة الخوف من فقدان السيطرة على المشهد التونسي، لأنّها تهيئ نفسها منذ 2011، لأن تكون الطرف الرئيسي في الخريطة السياسية للبلاد، عبر الحفاظ على حضورها الدائم في السلطة، وهو ما دفعها لتقديم مرشّحٍ للانتخابات الرئاسية، غير أنّه فشل من الدور الأوّل، فضلاً عن ترشيح زعيمها لرئاسة البرلمان، وترشيح الجملي لرئاسة الحكومة التي أسقطها البرلمان.

وأضاف منصر لحفريات أنّ حركة النّهضة خائفة من فقدان برنامجها وإستراتيجيتها بوراثة كلّ المنظومة السياسية، الذي هيّأت نفسها لها، منذ عودتها للنشاط العلني بعد الثورة، وأنّ ذلك ما دفعها سابقاً للتحالف مع حزب نداء تونس الذي كان يعتبر آنذاك الطرف الوحيد الذي يمثل المنظومة القديمة، وحين ساءت علاقتها به، تحالفت مع رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد، وهي تعمل اليوم على التحالف مع قلب تونس، الذي يعدّ الطرف الأقوى الذي يمثّل المنظومة القديمة.

رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية حول المغرب العربي، اعتبر أيضاً أنّ الخوف من الاستئصال والإقصاء الذي يحكم تحرّكات النهضة ومواقفها، يتحوّل شيئاً فشيئاً، إلى دعاية لتجميع قياداتها المنسلخة عنها، وللتغطية على الأهداف الرئيسية للحركة.

عزف على التناقضات
باسل ترجمان المحلّل السياسي أشار، في سياقٍ متصلٍ، إلى أنّ موقف النّهضة من تشريك قلب تونس في مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة، تكرارٌ لنقيضه خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية نهاية العام الماضي، حين شدّدت على أنّها لن تتحالف مع هذا الحزب الذي تحوم حوله شبهات فساد، وأقنعت ناخبيها بأنّها ستتحالف فقط مع الأحزاب المحسوبة على الخطّ الثوري.

وكان زعيم الحركة نفسه راشد الغنوشي، قد شدّد عند انطلاق مشاورات تشكيل حكومة الحبيب الجملي الذي عيّنته النهضة وأسقطه البرلمان، على أنّهم لن يشاركوا بحكومة يشارك فيها حزب قلب تونس، وأنّ “النهضة” ترفع، على غرار أحزاب أخرى، “الفيتو” على مشاركة بعض الأحزاب في الحكومة، في إشارةٍ إلى حزبيْ قلب تونس والحزب الدستوري الحر، الذي يرفض بشكلٍ قطعي مشاركة حركة النّهضة في أي خطوةٍ سياسيةٍ.

وبعد أن كانت الحركة تعد أنصارها بتكوين حكومةٍ ثوريةٍ، تنتصر للثورة التونسية ومبادئها، تتشارك فيها مع الأحزاب المحسوبة على الخطّ الثوري، شرط أن يكون رئيسها وأعضاؤها مستقلّين، باتت تدعو إلى ضرورة تشكيل حكومةٍ سياسيةٍ، تشمل كافة الأطراف بمختلف توجهاتهم.

وخلال الحملات الانتخابية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وعد الغنّوشي وكل قيادات حركة النّهضة، بعدم إعادة سيناريو التوافقات، وأنّ الحركة، لن تتحالف مع الأحزاب التي تعادي الثورة، في مقدّمتها قلب تونس، غير أنّهما تحالفا في أوّل محطّةٍ عقبت الانتخابات، خلال جلسة انتخاب رئيسٍ للبرلمان، حيث توافق الحزبان على انتخاب الغنّوشي رئيساً للبرلمان، والقيادية بقلب تونس سميرة الشواشي نائباً له.

ويرى الأستاذ في التاريخ الإسلامي والناشط السياسي رياض مرابط في تصريحه لـ”حفريات”، أنّ الحركة متفقة مع نفسها، وأنّ هذا التناقض نابعٌ من صميم منطقها الداخلي، لأنّ كل مواقفها وقراراتها تصب في مصالحها السياسية الضيّقة، لافتاً إلى أنّ مصلحتها اقتضت خلال الحملة الانتخابية أن تسوّق خطاباً “ثورجياً”، يحمل حرباً على الفساد ممثلةً في حزب قلب تونس.

وقال إنّ مصلحتها، لاحقاً حين عادت إلى السلطة، اقتضت أن تخلط الأوراق، وأن تبحث عن تحالفات تحمي بها نفسها، مشدّداً على أنّ الحركة لن يكون لها أصدقاء لا من اليمين ولا من اليسار، لأنّها لم تتخلّص بعد من الطباع الدعوي الذي يقوم على نظرية امتلاك الحقيقة

نقلا عن حفريات

Exit mobile version