ليس من السهل التكهن بملامح وسياقات المرحلة الجديدة المقبلة في السودان.
المناخ السائد في الشارع وفي أروقة القوى والتيارات الحزبية على امتداد الجغرافيا السودانية كلها تشي بأن الغموض عنوان عريض ومهيمن على المشهد.
عزز هذا الاعتقاد قرار المجلس السيادي بالتفرغ لمهامه العسكرية الدفاعية عن السودان بكل ركائزه العسكرية والسياسية والوطنية والشعبية، وبذلك يكون قد نأى بنفسه عن التجاذبات الحزبية، ودحرج الكرة باتجاه ملاعب المدنيين، الذين يتصدرون قوائم التيارات السياسية كقوى وكأفراد على حد سواء.
للوهلة الأولى تبدو قرارات المجلس السيادي كأنها تعبير عن حقيقتين شكّلتا القناعة لدى قادته بضرورة الانسحاب من المشهد السياسي دون التخلي عما يفرضه الواجب الوطني على عاتق المؤسسة العسكرية داخليا وخارجيا، مع تأكيد احترام خيارات القوى السياسية والحزبية في سياق الحوارات المقبلة من أجل تشكيل جسم سياسي مدني ينقل السودان إلى آفاق الاستقرار عموما، والمجتمعي بشكل خاص.
الحقيقة الأولى مرتبطة بتفاعلات الوضع الداخلي وما اعتراه من تقلبات ومناكفات كانت بدايتها بين شركاء الحكم من العسكريين والمدنيين، حيث أثبتت تجربة الحكم المشترك والإدارة الثنائية للسلطة استحالة التعايش بين المكونين النقيضين.
التباين بين جناحي السلطة السابقة، المدنية والعسكرية، أفضى إلى الافتراق، وأفرز تبعات صعبة على وضع البلاد والعباد لأنه ينبع من رؤيتين متباعدتين لواقع البلاد ومستقبلها، ومن اختلاف البنية الفكرية والثقافية لكل مكوّن في إدارة الأمور ومعالجة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومقاربة العلاقات الإقليمية والدولية.
أما الحقيقة الثانية فمردّها إلى عوامل خارجية، بعضها إقليمية متعلقة بعلاقات السودان في محيطَيْه الأفريقي والعربي، وأخرى عالمية ألقت بظلالها على المسرح الدولي، كالنزاع الروسي الأوكراني وذيوله وتداعياته على العلاقات الدولية وتوازناتها.
نافذة الأمل، التي شرّعتها قرارات المجلس السيادي بترك الساحة للسياسيين كي يجترحوا خارطة طريق ويشكلوا مؤسسات حكم مدني انتقالي تلبي مطالب وآمال الشعب السوداني، ليست ممهدة، ولا هي مفروشة بالورود، ولا تعني أنها ستكون فرصة لجهة أو تيار على حساب آخر، إنها سانحة في أفق لا يزال معتمًا وغير واضح المعالم حيال غد السودان ومستقبله، إنها التحدي الذي يواجه الجميع، عسكريين ومدنيين، وكذلك المؤسسات والهيئات الإقليمية والدولية المهتمة بالوضع السوداني.
كثيرة هي العراقيل والمطبات التي تواجه الأجسام السياسية والحزبية السودانية على مختلف مشاربها ومآربها، تبدأ من الامتحان الفعلي لبرامجها الوطنية التي تتبناها وسبل تطبيقها على أرض الواقع حين تنتقل إلى ساحة العمل والفعل، التي باتت متاحة اليوم، مرورًا برؤاها وتصوراتها لطبيعة التحالفات المطلوبة مع بعضها لبلورة جسم سياسي موحد يقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية بعد أن تعمقت الخلافات، وصولا إلى صياغة قواعد وأسس أكثر فاعلية، ضبطا للعلاقات الناظمة بين مكونات المجتمع السوداني وأطيافه المتنوعة والمختلفة، ونزع بواعث التوتر ومسبباته، حيث سجل مزيدا من التفاقم، وربما يكون هذا السياق هو الأكثر ضغطًا على الجميع، نظرا لما تشهده بعض مدن السودان من مظاهرات احتجاجية مطالبة بالحكم المدني، واضطرابات في بعض الأقاليم تحت ضغط الاحتياجات اليومية للسكان في ظل الظروف الاقتصادية التي يمرون بها، وكلاهما انعكس على مجمل مظاهر الحياة السودانية، وأدى إلى شلل العديد من المرافق العامة، إضافة إلى المخاطر الكامنة على الصعيد الأمني في غير بقعة من البلاد.
قدمت مجريات الحدث السوداني، منذ الإطاحة بنظام “البشير” حتى الآن، قرائن على استمرار وجود نزعات وتوجهات وصراعات في بعض الولايات والمناطق تهدد وحدة السودان الجغرافية والسياسية والمجتمعية.
مضى على الأزمة السياسية الراهنة أكثر من تسعة أشهر، والبلاد بلا حكومة، مما أسهم في تعقيد الواقع السوداني أكثر.. الأولوية اليوم، بعد قرارات المجلس السيادي وما أثارته من ردود فعل داخليا وخارجيا، وما أشاعته من حراك وتفاعلات داخل الأحزاب، تتطلب العمل من قبل الجميع للنظر إلى المصلحة العليا للسودان وشعبه، وتجاوز الانقسامات والخلافات، وبلورة قواسم وطنية مشتركة تؤسس لمرحلة الاتفاق والتوافق على إجراءات دستورية عملية كمنطلق لقيادة المرحلة الانتقالية وإرساء قواعد البناء المدني الديمقراطي، تأسيسا لاستقرار مستدام يعقب المرحلة الانتقالية.