سياسة

حين سقطت هجليج في يد تأسيس…قراءة في لحظة مفصلية تغيّر مسار الحرب السودانية


لم تكن السيطرة المفاجئة التي أعلنتها قوات تأسيس على حقل هجليج النفطي حدثًا عابرًا في الحرب السودانية، ولا كانت التصريحات الأميركية الأخيرة مجرّد موقف سياسي جديد. ما جرى خلال يومين فقط — 8 و9 ديسمبر 2025 — كما وثّقته قناة “الحرة”، شكّل نقطة تحول حقيقية في بنية الصراع، لأنها المرة الأولى التي تتقاطع فيها مكاسب ميدانية حاسمة مع تغيّر ملحوظ في السياسة الأميركية، بينما تأتي تقارير دولية جديدة لتكشف حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها السودان منذ اندلاع الحرب. وفي ظل كل ذلك، بدا أن البلاد تعيش عند أخطر منعطف منذ بدء القتال عام 2023.

السيطرة على هجليج أعادت رسم خريطة القوة. فالحقل ليس مجرد محطة استخراج، بل هو القلب الصناعي الذي تمر منه غالبية نفط جنوب السودان قبل أن يشق طريقه نحو ميناء بورتسودان عبر خط أنابيب يُعد شريانًا اقتصاديًا لا يمكن لسلطة بورتسودان الاستغناء عنه. لذلك لم يكن مفاجئًا أن تنسحب قوات البرهان والعاملون في المنشآت فور اقتراب قوات تأسيس، في خطوة فسّرها التقرير بأنها محاولة لتجنب تدمير البنية النفطية التي قد تُشعل أزمة اقتصادية لا يمكن احتواؤها. هذا الانسحاب السريع أعطى لتأسيس انتصارًا نظيفًا بلا مواجهة، لكنه منحها قبل ذلك مكسبًا استراتيجيًا نادرًا: السيطرة على مصدر دخل يمكن أن يؤثر مباشرة في توازن الموارد المالية بين الطرفين. فمنذ بداية الحرب، ظل البرهان يعتمد على الإيرادات المتبقية من رسوم عبور النفط للحصول على العملة الصعبة، ومع سقوط هجليج خرجت واحدة من أهم أوراقه من يده.

لكن الأمر لم يتوقف عند حدود الميدان. فبينما كانت قوات تأسيس تعلن عبر قنواتها في “تيليغرام” أنها ملتزمة بحماية المنشآت واستمرار الإمدادات النفطية، كانت الأسواق تتوجس من احتمال تعطل الإنتاج أو استهداف الأنابيب في أي لحظة، خصوصًا أن تاريخ الصراع السوداني مليء بالسوابق التي تحوّلت فيها الأنابيب إلى أهداف عسكرية. ومع ذلك، فإن الرسالة الأعمق في سيطرة تأسيس لم تكن اقتصادية فقط، بل سياسية بالدرجة الأولى، لأنها تعني أن القوة التي كانت محاصرة في أطراف العاصمة قبل عامين أصبحت اليوم قادرة على الوصول إلى مراكز ثقل حساسة ترتبط باقتصاد دولتين: السودان وجنوب السودان.

في الوقت نفسه، كانت واشنطن ترسل إشارات واضحة على تغيير مقاربتها تجاه الأزمة السودانية. التقرير الثاني لـ”الحرة” نقل عن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قوله إن الرئيس ترامب يتابع الملف السوداني “شخصيًا”، بعد سنوات اعتمدت فيها واشنطن على وسطاء ومبعوثين لا يمتلكون الوزن السياسي الكافي لفرض حلول أو ممارسة ضغوط فعالة. هذا التغيير لا يمكن فصله عن مشهدين كبيرين: الأول هو اشتداد المنافسة الدولية على البحر الأحمر، والثاني هو التمدد الروسي عبر مشروع القاعدة البحرية في بورتسودان، والذي تعتبره الإدارة الأميركية تهديدًا مباشرًا لمصالحها في المنطقة.

حددت القناة ثلاث عقبات أساسية أمام أي تسوية تريد واشنطن الوصول إليها. أولها الفجوة العميقة بين رؤية الولايات المتحدة ورؤية جيش البرهان، خصوصًا فيما يتعلق برفض سلطة بورتسودان الجلوس في حوار تشارك فيه الإمارات. هذا الرفض، الذي لم يقدّم البرهان بشأنه أي أدلة تُثبت اتهاماته لأبوظبي، يجعل واشنطن ترى أن الرجل يعرقل جهود التسوية ويهرب من مشاركة أطراف مؤثرة في الإقليم. أما العقبة الثانية فتتعلق بملف الإسلاميين داخل الجيش. فالإدارة الأميركية غير مقتنعة بنفي البرهان وجود عناصر من تيار الإسلام السياسي في البنية العسكرية للدولة، وهو أمر يزداد حساسية مع اقتراب ترامب من تصنيف الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية أجنبية. وهذا يعني أن أي علاقة مستقبلية مع جيش مثقل بوجود عناصر عقائدية متشددة قد تصبح عبئًا على السياسة الأميركية. العقبة الثالثة هي ملف القاعدة الروسية، الذي يبدو أنه أصبح نقطة تجاذب دولية مفصلية، لأن السيطرة على البحر الأحمر لا تخص السودان وحده بل ترتبط بمسارات التجارة العالمية والأمن البحري وموازين النفوذ في القرن الأفريقي.

التقاطع المثير هو أن الضغط الأميركي المتزايد بشأن ملف الإسلاميين ينسجم مع التوجه الإماراتي في المنطقة. وهذا ما جعل سلطة بورتسودان تكثّف اتهاماتها للإمارات بدعم قوات تأسيس، رغم غياب أي أدلة علنية، في محاولة لتأطير الصراع كحرب بالوكالة. لكن واشنطن، وفق التقرير، لا تبدو متقبلة لهذا الخطاب، خصوصًا أنها ترى أن رفض البرهان الجلوس مع الإمارات هو بحد ذاته جزء من المشكلة وليس جزءًا من الحل.

وفي خضم هذه التحولات، جاءت BBC بتقرير صادم يعيد تعريف معنى الحرب على المدنيين في السودان. التقرير، الذي اعتمد على مشروع “شاهد السودان”، جمع أكبر قاعدة بيانات معروفة للغارات الجوية العسكرية منذ 2023. وخلص إلى أن القوات الجوية السودانية نفذت ضربات في مناطق سكنية وأسواق ومدارس ومخيمات للنازحين، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 1700 مدني. الأخطر أن التقرير يؤكد استخدام الجيش قنابل غير موجهة في مناطق مزدحمة، وهو استخدام يوصف عادة بأنه انتهاك خطير للقانون الدولي الإنساني. هذه التفاصيل تقدم صورة قاتمة عن سلوك الجيش في الحرب، وتُضعف موقفه أمام المجتمع الدولي في لحظة تتزايد فيها الضغوط الأميركية بشأن ملف حقوق الإنسان.

مجتمعة، تشكل هذه الوقائع لوحة جديدة للصراع السوداني. فسيطرة تأسيس على هجليج تعني أن ميزان القوة لم يعد عسكريًا فقط، بل أصبح اقتصاديًا أيضًا. والتحول الأميركي يعني أن واشنطن لن تبقى متفرجة على انهيار الدولة أو تمدد النفوذ الروسي. أما تقرير BBC فإنه يفتح الباب أمام مساءلات دولية قد تُعيد ترتيب المشهد السياسي والعسكري من أساسه. وبينما يحاول كل طرف تثبيت مكاسبه، يبدو أن السودان يتجه نحو مرحلة جديدة من الحرب، قد تكون أكثر تعقيدًا من كل ما سبق، لأن فيها تتدخل الجغرافيا والاقتصاد والسماء والسياسة الدولية في معركة واحدة.

في النهاية، يبقى السؤال: هل تمهّد هذه التحولات لصفقة كبرى تُفرض من الخارج؟ أم أن السودان مقبل على جولة أكثر ضراوة تُفتح فيها جبهات جديدة ويُعاد فيها رسم خريطة السيطرة من الجنوب إلى البحر الأحمر؟ الإجابة لا تزال غامضة، لكن المؤكد أن ما قبل سقوط هجليج ليس كما بعده، وأن الدور الأميركي في المرحلة المقبلة لن يشبه ما كان عليه في السنوات الماضية، وأن الجيش الذي يواجه اتهامات متصاعدة بارتكاب مجازر سيجد نفسه قريبًا أمام خيارات أصعب مما يعتقد.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى