القلق الإيراني من المجهول الأمريكي
تعد إيران الساعات قبل الأيام حتى يتسلم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن مفاتيح البيت الأبيض.
لقد أذاقهم دونالد ترامب حصاراً لم يعرفوه من قبل، ولا طاقة لهم على تحمله عدة سنوات أخرى، فما حل ويحل بهم من عقوبات وتضييق وملاحقة ليس شيئا يمكن المكابرة عليه، حتى لو ادعى المرشد علي خامنئي بأن بلاده لا تستعجل عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي والتصالح مع طهران.
تشعر إيران بقلق بالغ إزاء ما تحاول أمريكا وإسرائيل فعله خلال الأيام الأخيرة من ولاية الرئيس ترامب. تدعي الثبات وعدم الاكتراث، ولكن الحقيقة أنها تخاف من عملية عسكرية أو استخباراتية، تزيد من إحراجها بسبب عدم قدرتها على الرد، كما أن قادة الحرس الثوري وزعماء مليشيات الولي الفقيه خارج الحدود باتوا يخشون اليوم على أنفسهم كثيرا، ولا يجرؤون على الخروج من مخابئهم.
حتى لا يفضحها عبء الانتظار تحت وطأة ضبابية النوايا الأمريكية تجاهها، ترسل إيران رسائل عشوائية لإدارة بايدن المنتظرة أن تسكن البيت الأبيض قريباً. هي من جهة تحاول تشجيعه على مفاوضتها بمجرد وصوله إلى السلطة، وفي الوقت ذاته تستعرض “قوتها” و”نفوذها” في المنطقة، لتقول إنها قادرة على التصعيد والتهديد، بالإضافة إلى الحصول على القنبلة النووية في وقت قصير.
أكثر المواقف وضوحا بشأن علاقة إدارة بايدن مع إيران مستقبلا، أعلنها المستشار المرشح للأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، وأكد فيها أن المفاوضات المتوقعة مع طهران يجب أن تشمل برنامجيها النووي والصاروخي. وطبعاً لم يعجب ذلك الخمينيين وردوا بالرفض مباشرة، ثم أكملوا رسائلهم التي تبوح برغبة في التفاوض مع واشنطن، ولكن بعد إعلان بايدن “التوبة”، وفق الرئيس الإيراني.
حسن روحاني ينتظر من الرئيس المنتخب أن يعود إلى الاتفاق النووي، لتعود إليه طهران وفق الصيغة المبرمة في 2015، أما بقية الملفات التي تشغل بال المنطقة العربية فهي لن تكون موضع تفاوض بين طهران وواشنطن؛ هو في ذلك إما واهم، وإما مدعّ، وإما واثق من صلابة العلاقة الخفية التي تطورت خلال العقد الثاني من الألفية الجديدة بين الديمقراطيين الأمريكيين والإسلام السياسي في المنطقة.
بحذر وتجنبا لأي حماقة تفرض على الرئيس المنتخب مواصلة نهج سلفه، يسعى الخمينيون إلى التفاوض مع الإدارة الديمقراطية المقبلة بذات الطريقة التي أجرتها مع الرئيس السابق باراك أوباما طوال 2014. برنامجها النووي هو فقط ما سيناقش على الطاولة، والاتفاق بشأنه يعني إطلاق يد إيران في المنطقة دون رقيب، مع ضمان عدم المساس بأمن إسرائيل إلا في حدود الجعجعة اللفظية المعروفة.
تدفع إيران بمليشياتها إلى إطلاق صواريخ على المنطقة الخضراء في بغداد، وأخرى على مطار عدن، وتوعز بتعليق صورة لقاسم سليماني في قطاع غزة، وتعطيل تشكيل حكومة لبنان، كما تأمر بتغيير أسماء شوارع ومناطق في دمشق، ولكن كل توجيه يصدر من طهران يرافقه تأكيد على تجنب ارتكاب أي حماقة تعيق عودة الرئيس الأمريكي المنتخب إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
ما تحاول إيران فعله في الدول العربية -التي تهيمن عليها- هو مجرد استعراض لأوراقها في المفاوضات المقبلة مع الولايات المتحدة، ليس استعداداً للتخلي عنها، وإنما إعلان عن حجم الخدمات التي يمكن أن تقدمها في المنطقة. والسؤال هو.. ما إذا كانت واشنطن تريد أن تعيد الخمينيين إلى حدودهم فعلاً، أم أنها تفضل مواصلة الاعتماد عليهم كوكيل لإشعال النزاعات والحروب في الشرق الأوسط؟
إعلان طهران عن تخصيب اليورانيوم بنسبة عشرين في المئة، وحجز إيران للناقلة الكورية الجنوبية، يأتيان أيضا في سياق الرسائل الإيرانية المستشرِفة لشكل المفاوضات المقبلة مع الولايات المتحدة وحدها، فلم يعد يهتم الخمينيون بالتحدث إلى أحد في القارة العجوز، والسبب أنهم أدركوا قيمة الاتفاقات دون واشنطن، وعرفوا أن ما يلتزم به البيت الأبيض يلتزم به الأوروبيون.
ولا يعني تفاؤل الإيرانيين بإدارة بايدن عدم استعدادهم للسيناريوهين السيئين المتمثلين بعدم التئام طاولة المفاوضات أو فشلها. في الحالتين سيحرص الخمينيون على مواصلة تخصيب اليورانيوم لامتلاك سلاح نووي لأنه ورقة الضغط الرابحة بيدهم، ولكن فشل المفاوضات سيجعل تغيير نظام الولي الفقيه هو الخيار الوحيد المتاح أمام الولايات المتحدة إذا ما أرادت الحفاظ على أمن منطقة الشرق الأوسط.
مهما تأخر عقد المفاوضات مع إدارة الرئيس بايدن ستحافظ طهران وواشنطن على شعرة معاوية في العلاقة بينهما. ولكن إن فشلت هذه المفاوضات فهذا يعني أن التواصل بين الطرفين قد وصل إلى طريق مسدود، إما لأن الولايات المتحدة أدركت عقم الحوار مع الخمينيين، وإما لأن إيران قد حسمت أمرها باتجاه حيازة السلاح النووي أولاً، ثم التفاوض مع أي إدارة تمتلك مفاتيح البيت الأبيض.
إن أرادت إيران امتلاك قنبلة نووية فإنها تحتاج إلى شيئين أساسيين، الأول هو بذل جهود كبيرة لإخفاء تطورات برنامجها النووي، وإبقائه بعيدا عن أعين الأقمار الصناعية وأجهزة الاستخبارات الغربية والشرقية، والثاني هو إشعال نزاع مسلح محدود في المنطقة ينشغل العالم بإخماده أكثر من مراقبة سلوك الخمينيين، فيتوفر لهم الغطاء والوقت الكافيين لإنجاز المهمة وتحقيق ما يحلمون به منذ عقود.
اغتيال المسؤول عن برنامجها النووي محسن فخري زاده، يشكك في قدرة طهران على حماية هذا البرنامج من الاختراق، أما مشاريع النزاعات التي يمكن أن تشعلها في الشرق الأوسط فهي متوقعة، ولا تخشى من مفاجآت يصعب معالجتها بالسرعة والحكمة الكافيتين. لقد تغيرت سياسات الدول المجاورة لإيران خلال العقد الثاني من الألفية الجديدة، وتغيرت معها أجندة أمريكا في المنطقة والعالم. يجدر بالخمينيين الاعتراف بهذه المتغيرات، وإعادة صياغة سلوكهم وفقا لها. فهذا هو سبيلهم الوحيد والصحيح للتحرر من عصاب المجهول الأمريكي كلما تغير ساكن البيت الأبيض.