السفن العثمانية وأجراس الكنائس
ثمة مقولة شائعة على مواقع التواصل الاجتماعي تقول “عندما كانت السفن العثمانية تمر أمام الموانيء الأوروبية المسيحية كان أهل هذه المدن يمتنعون عن دق أجراس الكنائس خوفًا من أن يستفزوا المسلمين فيغزون مدينتهم” وقد يضعها أحدهم في تدوينة على موقع فيسبوك بل وربما أنهاه بوسم (#) من عينة “عندما كنا عظماء”.
الحقيقة أني لم أصادف هذه العبارة في مصدر تاريخي واحد، ولعلها بعض ما تفتقت عنه قريحة هذا أو ذاك من غلمان العثمانلية الجدد، ولكن لو فرضنا صحتها فما هو وجه الفخر أو العظمة في ذلك؟
الأمان بعد الخوف:
كيف كان العالم القديم قبيل حضارة المسلمين؟ كانت فكرة شعور إنسان أنه آمن على دينه تعتبر من قبيل المطلب العسير، ففي مصر كان المسيحيون الأرثوذكس الأقباط يبذلون الدم والعرق ليكونوا في مأمن من الاضطهاد البيزنطي.
والبيزنطيون كانوا يضطهدون كذلك اليهود بسبب نبوءة تقول أن مُلك الروم سيدمره شعب مختون، والفُرس كانوا يضطهدون المسيحيين من حين لآخر بسبب اتهامهم الدائم لهم بأنهم عملاء للبيزنطيين إخوانهم في الدين، وفي اليمن كانت لا تزال ذكرى محارق الملك يوسف ذو نواس للمسيحيين في نجران تتردد.
وعندما ظهر الإسلام نال المسلمون نصيبهم من التعذيب والملاحقة والاضطهاد والقتل والطرد والتشريد.
وعندما قامت الدولة الإسلامية وبدأت مرحلة توسعها كانت القاعدة واضحة: الكل آمنون على أديانهم وشعائرهم ودور عباداتهم طالما أنهم قد حافظوا على الولاء للدولة والتزموا دفع مقابل الحماية (الجزية).. جدير بالذِكر أن البعض قد اختاروا عدم دفعها مقابل الاشتراك في الدفاع عن بلادهم.
وخلال التاريخ الإسلامي طالما شهدنا نماذجَا لقضايا حكم فيها القضاة بأعادة بناء كنيسة أو معبد أو بمعاقبة أمير أو والي قام بهدمها.. (راجع على سبيل المثال موقف السلطان قايتباي من شكوى بعض اليهود من قيام بعض الولاة بهدم معبد لهم وحكم القضاء في ذلك).
لا أقول أن التاريخ الإسلامي كان كله صفحة بيضاء ناصعة تشع منها السماحة الدينية، فمن المؤكد أن ثمة وقائع لتعصب ديني أو مذهبي هنا أو هناك، كصراع “خلق القرآن” أو كسياسات الحاكم بأمر الله أو كوحشية محمود بن سبكتكين أو كصدامات السُنة والشيعة في الكرخ..إلخ.. وإنما أعني أن الرسالة الأساسية للإٍسلام كانت تؤكد على حرية العقيدة وتأمين الناس على عباداتهم، بغض النظر عن عدم التزام البعض بذلك..
قارن هذا الفكر وهذه السياسة بـ”الفخر” بأن العثمانيون كانوا يروعون غير المسلمين إلى حد امتناع مسيحي عن دق جرس كنيسته في بلاده!
النفاق العنصري العثماني:
المثير للتأمل أن العثمانيين كانوا على قدر كبير من التناقض فيما يتعلق بغير المسلمين.. فهم لا يترددون في تقريبهم ومحاباتهم وتمييزهم لو أن من وراءهم مصلحة أو منفعة.. كتعيين كبار العائلات الأرمنية على رؤوس مؤسسات صناعية ومعمارية عثمانية، أو كتقريبهم القيادات الدينية للمسيحيين، أو كاستعانتهم ببعض غير المسلمين في بعض المهام الهامة.. أما من لا منفعة من وراءهم فليس لهم سوى التهميش والاضطهاد والانتقاص من الحقوق الممنوحة للمسلمين، بل لنكن أكثر دقة للمسلمين من “العثمانيين الأتراك” وليس من العرب أو غير التُرك من رعايا الدولة.. ويمكن مراجعة فارق الوضع بين الأرمن من أرباب الصناعات والمهارات والذين حظوا بمناصب وامتيازات في العاصمة، وقرناءهم من أرباب الفلاحة والحرف البسيطة في القرى والبلدات والذين تفننت الدولة في اضطهادهم طالما أنهم لا يمثلون لها فائدة مباشرة.
بل وأن السلطة العثمانية كانت لها سياسة منحطة في التعامل مع العوام من غير المسلمين، تلك السياسة تقضي باستهداف هذه الطائفة أو تلك لو أن الدولة دخلت في حرب أو علاقة متوترة مع دولة أجنبية تدين بنفس دين هذه الطائفة المضطهدة.. وهو نوع من “التخوين الاستباقي” لو سمحتم لي بالتعبير، أو هي معادلة أنتجها العقل العثماني المختل تقول أن “طالما أن هؤلاء الرعايا على نفس دين عدونا فلا بد أنهم سيخونوننا لصالحه”! وكأن مجرد أنك قد وُلِدت مسيحيًا على المذهب الروم أرثوذكسي هو جريمة فقط لأن القدر قد شاء أن تعاصر في حياتك حربًا عثمانية روسية، مثلًا.
هذه السياسة لم تقتصر كارثيتها على غرس التعصب الديني والمذهبي فحسب وإنما فتحت الباب للتدخل الأجنبي بذريعة “حماية الأقليات الدينية” فهذه فرنسا تتدخل لمناصر الكاثوليك وهذه روسيا تتدخل لحماية الأرثوذكس.. بل أن هذه السياسة العثمانية إنما تمثل رِدة ورجعية للموروث الفكري السياسي الإسلامي حيث أنها قد ألغت مباديء التعايش التي طالما تطورت عبر التاريخ الإسلامي وأحلت محلها مباديء فاسدة تقوم على نشر ثقافة الكراهية والاحتقار للآخر “فقط لأنه هو”
الإرث الملعون:
هذه الفكرة العثمانية الفاسدة عن المسلم أنه “مجرد بلطجي عابر للبحار” تسببت في ترك إرث من الإسلاموفوبيا عند الآخر.. حتى أنني أدعو القاريء أن يراجع كتابات المستشرقين من المدافعين عن الحضارة الإسلامية والذين يبدو واضحًا الفرق بين مدحهم أخلاق ورقي وسلوك المسلمين ما قبل العثمانيين من ناحية، وذمهم الهمجية والوحشية والبلطجة العثمانية من ناحية أخرى.
فالمسلم كان يتوسع بالجيش والغزو-كأي دولة في عصره-ولكنه كان يغرس استقراره بأن يؤسس في البلد المفتوح لتجربة حضارية تستحق الاحترام إلى يومنا هذا.. أما العثماني فكان يقف عند مرحلة “السلاح” وصيحات التكبير، وتبقى سياسته قائمة على الترويع والتخويف وخلق الارتباط الشرطي بين انعدام الأمان ووجود العثماني في الأنحاء.. وطبعًا بما أن العثمانيون كانوا يقدمون أنفسهم باعتبار أنهم “الصورة الحصرية للإسلام” فإن من الطبيعي أن يتحولوا مع الوقت إلى مصدر الغذاء الرئيسي للإسلاموفوبيا.
ختامًا:
هؤلاء الذين يتبعون العبارة سالفة الذكر بـ”عندما كنا عظماء” لديهم مشكلة حقيقية في فهم “العظمة”، وهم نتاج طبيعي لتشويه مفهوم الحضارة الإسلامية على أيدي المتطرفين وتحويله من “إنتاج وموروث من الثقافة والعلم والتعايش والبناء والعمران والأخلاق والسياسات النافعة” إلى “صيحات تكبير وسيوف مسلولة ونظرات تشع بالبغض للآخر وإنذاره بالويل”.
بالنسبة لهم فإن حضارة المسلمين لم تكن في عمارة مساجد القاهرة ولا حركة الترجمة ببغداد ولا قصور الأندلس ولا موروثات علماء وأدباء قرطبة ودمشق والقيروان والقاهرة وغرناطة وأشبيلية وحلب وإنما هي في الأعلام الحمراء لبني عثمان وهدير مدافعهم وصواري سفنهم الحربية التي لم يجدوا تصميمًا لمآذن مساجدهم خيرًا منها!
فأية انتكاسة لمفهوم الحضارة نعاصره!
نقلا عن العين الإخبارية