سياسة

أردوغان والغاز الإسرائيلي.. ليس الآن وقت فلسطين!


لم تنقطع محاولات الرئيس التركي، رجب طيب أروغان، الرامية إلى تحقيق أقصى استفادة ممكنة، من التناقضات السياسية الموجودة على الساحة الشرق أوسطية، للخروج ببلاده من حيز الهامش، فوق أشلاء الدول المركزية التي تفككت إبّان أحداث “الربيع العربي”، بأداء مناورات متعددة، ما استوجب منه في كثير من الأحيان، توظيف القضايا العربية لصالحه، فنجده يرفع بيد رايات نصرة فلسطين والأقصى، بينما يضع اليد الأخرى، وبمنتهى الحميمية، في يد الاحتلال الصهيوني؛ ليجني المزيد من المكاسب.

مرمرة تشق طريقاً جديداً نحو التطبيع

في أيّار (مايو) من العام 2010، منعت البحرية الإسرائيلية سفينة المساعدات “مافي مرمرة”، والتي حملت العلم التركي، من الوصول إلى ميناء غزة، وعندما رفضت السفينة الرسو في ميناء أشدود، داهمتها القوات الإسرائيلية، ما أسفر عن مقتل تسعة أشخاص جميعهم أتراك، وهو ما عرَّض أردوغان لحرج شديد، في ظل وجود اتفاقيات عسكرية واقتصادية متعددة بين أنقرة وتل أبيب، والتي تقوم إسرائيل بمقتضاها بتحديث أسلحة الجيش التركي، مقابل 150 مليار دولار، بالإضافة إلى المناورات العسكرية المشتركة، والتبادل التجاري المتزايد بين الطرفين.

كان على أردوغان اتخاذ رد فعل يهدِّئ من موجة الغضب التي صاحبت الحادث، وفي ظل طموحه الشخصي للعب دور المتحدث الرسمي باسم القضية الفلسطينية، قرّر تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل إلى الحد الأدنى، مع استدعاء السفير التركي، واشترط رفع الحصار البحري عن القطاع، للتراجع عن خطوات التصعيد السياسي التي انتهجها، وصاحبَ ذلك دعاية سياسية ضخمة، وبحيث لم يلتفت أحد إلى قيام أردوغان بمنع قافلة الحرية الثانية من التحرك لفك الحصار عن غزة، وبمنتهى الحزم، في العام 2011.

وعلى الرغم من كل الإجراءات السابقة، ظل التعاون العسكري قائماً بين الطرفين، وواصل ميزان التبادل التجاري ارتفاعه، ونشطت حركة السياحة بشكل ملحوظ، مع تواصل المباحثات التي أثمرت عن اتفاق مبدئي، في العام 2013، تقدِّم من خلاله إسرائيل تعويضات مالية لأسر ضحايا مرمرة، مع الاعتذار، وفي ظل رفض إسرائيل مناقشة مسألة فك الحصار عن قطاع غزة، طالب أردوغان بتعويضه عن هذا الشرط، في صورة صفقة يستفيد منها الطرفان.

الغاز الإسرائيلي يسيل لعاب أردوغان

بعد ثلاثة أعوام من المباحثات المتواصلة، وفي 27حزيران (يونيو) من العام 2016، أُعلن عن التوصل إلى تسوية بين تركيا وإسرائيل، لاستعادة العلاقات الثنائية بينهما بشكل كامل، وفق اتفاق يلزم الأخيرة بدفع تعويضات لأسر ضحايا السفينة مرمرة، وفي المقابل تقوم تركيا بإسقاط كل الدعاوى المرفوعة من جانبها ضد أفراد في جيش الدفاع الإسرائيلي.

وفي أعقاب التسوية السياسية، جرت ترتيبات اقتصادية متعددة، اقتنص بموجبها الطرف التركي امتيازات استثمارية هائلة في إسرائيل، حيث واصلت شركة “يلمازلار” التركية هيمنتها على سوق بناء الأبراج السكنية في الدولة العبرية، كما فازت شركة البورصة التركية بمناقصة تشغيل “التليفريك” في حيفا، وتوطدت أواصر الروابط التجارية بين الطرفين بشكل غير مسبوق، حيث وصل حجم التبادل التجاري بينهما في العام 2019، إلى نحو 6 مليارات دولار، بينها 4 مليارات دولار صادرات تركية.

كل هذه المكاسب التي جنتها أنقرة، جراء تسوية حادث السفينة مرمرة، لم تصرف ذهن أردوغان عن الصفقة الكبرى التي يحلم بها، وهي بناء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي، من إسرائيل إلى أوروبا عبر تركيا، ذلك المشروع الطموح الذي تضغط لأجله تركيا، لتعويض النقص الحاد لديها في إمدادات الغاز الطبيعي، حيث تستهلك سنوياً ما يقرب من 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، في حين تبلغ سعة خط أنابيب الغاز الطبيعي الذي يمر عبر الأناضول بين تركيا وأذربيجان، نحو 16 مليار متر مكعب فقط، ما يجعل اعتمادها على الغاز الروسي مخاطرة استراتيجية ضخمة، في ظل تباين العلاقات بين الطرفين، واختلاف الرؤى بينهما في العديد من القضايا.

مع اكتشاف حقل ليفياثان الإسرائيلي، وفي ظل المخزون الهائل المحتمل فيه، والذي يقدر بحوالي 535 مليار مكعب من الغاز الطبيعي، أي ضعف حجم الغاز الموجود في حقل تمار، الذي تعتمد عليه تل أبيب، ومع  قرار الحكومة الإسرائيلية بالسماح بتصدير ما يصل إلى 40 بالمئة من احتياطيات الغاز، سال لعاب أردوغان، خاصة وأنّه سيكون بمقدور إسرائيل تصدير إجمالي  440-450 مليار متر مكعب، بحلول العام 2040، ما جعله يدفع باتجاه مشروع خط الأنابيب الطموح، والذي يمر تحت سطح البحر من حقل الغاز البحري الإسرائيلي، ليفياثان، إلى جيهان التركية، كما تم اقتراح مجموعة من الخطط على الجانب الإسرائيلي من أجل تذليل العقبات، للاستفادة من المخزون الهائل المحتمل في الحقل، في ظل الضغوط التي واجهتها شركة ديليك الإسرائيلية، والتي تمتلك نحو 45 بالمئة من المشروع.

ومع توصل الحكومة الإسرائيلية، واتحاد الشركات المهيمنة على الحقل إلى إطار قانوني لتفعيل العمل بالحقل، بدأ بالفعل تشغيل منصة استخراج الغاز به في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2019، وهو الشهر نفسه الذي أعربت فيه أنقرة، بحسب الإذاعة الإسرائيلية، عن استعدادها للتفاوض مرة أخرى مع تل أبيب، حول نقل إمدادات الغاز الإسرائيلي من الحقل إلى أوروبا عبر تركيا.

وفي هذه الآونة، انخفض الصوت التركي تماماً، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولم تعد مسألة حصار غزة ذات أولوية على أجندة أردوغان، حيث بات للحصول على الغاز الإسرائيلي، الأهمية المطلقة.

اختلاط الأوراق وارتباك تركي.

مع انخفاض أسعار الطاقة العالمية، أصبحت تكلفة المشروع التركي عالية للغاية، والتي تقدر بحوالي 3 مليارات دولار، ومع استحالة الاستعاضة عن ذلك، بخط بري يمر عبر الأراضي السورية، قررت إسرائيل التفكير في مشروع بديل، يتم من خلاله مد خط أنابيب الغاز من الآبار الإسرائيلية إلى قبرص واليونان وإيطاليا، ما يعني ضرب المشروع التركي في مقتل.

ولأنّه تعوَّد اللعب على كافة التناقضات الموجودة، سارع أردوغان إلى ترسيم غير شرعي، للحدود البحرية مع حكومة فايز السراج في طرابلس، قبل أن يؤكد أنّه لن يسمح لإسرائيل بمد أنبوب الغاز إلى أوروبا، بدون موافقة بلاده، استناداً إلى الاتفاق البحري الذي وقّعه مع حكومة الوفاق، ومن ثم كان عليه أن يتورط في الحرب الليبية، لتثبيت الأوضاع الهشة لمليشيات الوفاق، والزج بالجيش التركي في غمار حرب دامية.

وربما نجح التحرك اليوناني السريع في تحجيم طموحات أردوغان، إثر توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية، بين إيطاليا واليونان، حيث أعرب الرئيس التركي عن صدمته مما أسماه تبني إيطاليا التفسير اليوناني.

رافق ذلك تحرك ثلاثي مصري قبرصي، لترسيم الحدود البحرية بينهم، ما يعني حصار تركيا داخل مياهها الإقليمية، واستبعادها نهائياً من أيّ ترتيبات مستقبلية، بحيث يبقى رهانها الهش على حكومة فايز السراج غير ذي أهمية، وعليه قد تصبح أحلام أردوغان في الهيمنة على غاز المتوسط، محض أوهام، سوف تتقلص إلى أمنيات “سمسار” يتطلع إلى الفتات.

نقلا عن حفريات

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى