هل تنجح محاولات أردوغان في ضم ليبيا إلى الفضاء العثماني؟
لا يمكن النظر إلى الملف الليبي، بمعزل عن جملة الأدوار المختلفة، التي تحاول من خلالها عدة قوى إقليمية، حماية أمنها، أو بسط نفوذها، أو تحقيق أطماعها، وهو ما تجلى بوضوح من خلال مجموعة من المتغيرات، التي طرأت على أدوات الصراع ومدخلاته، في مساحة جغرافية مترامية الأطراف، تعاني في الوقت ذاته من فراغ سياسي قاتل.
ولعل الخصوصية الجيواستراتيجية التي تميز ليبيا، والمرتبطة بالبعدين الاقتصادي والديموغرافي، هي التي أدت، جميعها مرتبطة، إلى وصول الصراع إلى ذروته، وهو ما يتطلب، إلى جانب التقدير الكمي للقوى المتناحرة على الأرض، إعادة ترتيب المستويات النوعية والأيديولوجية لأطراف الصراع، مع تحليل ارتباطاتها الإقليمية، في ضوء تحديد الهدف الاستراتيجي المباشر لكل منها.
المربع الذهبي .. محاولة للفهم
قبل عقود، وضع المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، مفهوم المربع الذهبي؛ ويتكون من: الموارد البشرية، العوامل الاقتصادية، التسليح، مسرح الأحداث، وذلك للدلالة على المعطيات الواجب تحليلها بدقة، قبل الشروع في تحديد الأهداف الاستراتيجية، ومن ثم تحقيقها، وبتطبيق عناصر المفهوم على الساحة الليبية، نجد أنّ ضعف الموارد البشرية من حيث الكم، أدى بدوره إلى وجود عجز على مستوى القوات العسكرية، خاصة في ظل اتساع البقعة الجغرافية، وهو ما يفتح الباب أمام الاستعانة بالمرتزقة الأجانب.
ومن ناحية أخرى فإنّ المؤشرات الاقتصادية المنخفضة في ظل الصراع، وفي ضوء انهيار أسعار النفط، تجعل من القدرة على التسليح أمراً صعباً للغاية، في ظل ما يشهده سوق السلاح من ارتفاع، مع الحاجة إلى أسلحة نوعية تعالج النقص في الموارد البشرية، من هنا يأتي دور مسرح الأحداث وأهميته، حيث يتجلى تأثير الجغرافيا السياسية بوضوح؛ فليبيا هي البوابة الغربية لمصر التي تشهد صراعاً حاداً مع الجماعات الإسلامية في سيناء، والشرقية لتونس التي تحاول فيها حركة النهضة إحياء المشروع الإخواني بالتحالف مع تركيا، بالإضافة إلى كونها مدخل السودان، المتفجر بالصراعات، من أقصى شماله الغربي، وبوابة الصحراء الكبرى، وهو ما يعني وجود أكثر من طرف لديه مصالح يعمل على تحقيقها، بغض النظر عن اختلال بعض عناصر المربع الذهبي، طالما أنّ مسرح الأحداث يفي بالغرض، وهو ما نقل مركز الثقل في الصراع الشرق أوسطي من سوريا إلى ليبيا، التي تشهد حالياً ذروة الصراع الإقليمي.
وفي هذا السياق، يؤكد الإعلامي والباحث السياسي المصري رامي شفيق، أنّه ربما كانت التقارير التي تناقلتها وكالات الأنباء مؤخراً، والمتعلقة بطلب شركة البترول التركية، من حكومة الوفاق إذناً بالتنقيب في المياة الإقليمية الليبية بشرق المتوسط، تحمل الإجابة عن أسباب التدخلات غير المشروعة من جانب أنقرة في العمق الليبي، ودفع المسألة الليبية نحو سيناريو الأزمة، واعتبارها بؤرة التوتر البديلة عن سوريا.
ويؤكد شفيق لـ”حفريات”، أنّ دخول الطلب التركي بالتنقيب في المياه الإقليمية الليبية حيز التنفيذ، لا يمكن النظر إليه سوى باعتبار أنّ الفضاء الليبي أضحى ساحة حرب، بين القوى المتصارعة على ثروات شرق المتوسط، وخاصة قبرص واليونان وفرنسا وإيطاليا، حيث يمثل المحور الاقتصادي مرتكزاً مهماً لفهم الموقف الأوروبي من الأزمة الليبية، فالتباين الفرنسي الإيطالي، يعبر في حقيقته عن صراع اقتصادي بين شركات النفط، وما يستتبعه من نتائج سياسية، تبدو حاضرة على الواقع الميداني فيما بينهما .
ويرى شفيق أنّ جغرافيا الأراضي الليبية تكشف الغطاء عن جوانب الأزمة، منذ لحظة مقتل العقيد القذافي، والذي سبق واتهم السلطات القطرية بتمويل التنظيمات الجهادية في بلاده، وذلك باعتبار أنّ ليبيا تمثل ممراً دافئاً نحو القاهرة من ناحية، وما يحمله ذلك من قيمة سياسية، فضلاً عن اعتبارها بوابة إستراتيجية لدول شمال أفريقيا، والصحراء من ناحية أخرى، وكذا ما تحمله المياه الإقليمية من ثروات، وعليه فإنّ مقاربة السيناريو الليبي للسيناريو السوري، تظهر من خلال إدارة رجب طيب أردوغان لعدد من المقاتلين المرتزقة، الذين جلبهم من الساحة السورية، للحرب على الأراضي الليبية، ضد قوات الجيش الوطني الليبي، بيد أنّ تركيا تدفع الصراع على الأراضي الليبية، باعتبارها ورقة مناورة تستثمرها في إطار تكتيكي، بينها وبين واشنطن وموسكو.
ليبيا والفضاء العثماني
تمثل الدوافع الأيديولوجية أحد أبرز محفزات التدخل التركي في ليبيا، لتحقيق أطماع أنقرة الاقتصادية والسياسية؛ حيث عمل نظام العدالة والتنمية على تدجين نموذج سياسي موال، يتم الدفع به إلى المشهد الليبي، ومن ثم دعمه بكل السبل الممكنة، لينضم بدوره إلى الفضاء العثماني، المتمدد عبر أذرع الإخوان السياسية في تونس والمغرب وموريتانيا، وبشكل أقل تأثيراً في الجزائر، وأثمرت الجهود عن حزب العدالة والبناء الليبي، الذي بات مطية الإخوان وجناحهم السياسي، على غرار النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب، وعبر الفضاء العثماني، حاول الإخوان المسلمون في ليبيا الانخراط في العمل السياسي، بدعم من أقرانهم في المغرب وتونس، حيث حرصت تركيا على ربط الكتلة الإخوانية في ليبيا، بالمسار السياسي المغاربي، الذي تلعب فيه الأحزاب الإخوانية الموالية دوراً مركزياً في دعم الأجندة الأردوغانية، وهو ما أدى إلى تشابك العلاقات بين العدالة والبناء الليبي، والعدالة والتنمية المغربي، عبر تنفيذ عدة خطط مشتركة بين الحزبين، تتضمن مشاريع تقنية وهندسية، وورش تدريب وأعمال مختلفة من خلال شركات ثلاثية، يديرها الإخوان المسلمون، وبترتيب من ادريس بوانو، منسق العلاقات بين حزبي العدالة والتنمية المغربي والتركي، وهو ما كشف عنه مؤخراً المنتدى الاقتصادي الليبي في المغرب، حيث ظهر وزراء حكومة السراج إلى جوار قيادات العدالة والتنمية المغربي، وسفراء تركيا وقطر، ورجال أعمال ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، كما تجلى الدعم السياسي بوضوح في احتفاء حكومة العثماني، بزيارة خالد المشري، رئيس ما يسمى بمجلس الدولة الليبي، إلى المغرب، في منتصف آذار(مارس) الماضي.
لكن الدعم المباشر جاء عن طريق الجناح الإخواني في تونس، والمتمثل في حركة النهضة، وربما يعود ذلك إلى الطبيعة الجيوسياسية، حيث المجال الجغرافي الحيوي الذي يسهل الحركة بين مليشيات الإخوان في مصراتة وطرابلس، وجيرانهم في تونس، ومنذ البداية، لعب الغنوشي دوراً مباشراً، وبتوجيهات تركية، في بلورة البرنامج السياسي للعدالة والبناء الليبي، ومد عناصره بالخبرات السياسية اللازمة، عبر لقاءات وزيارات متعددة، جرى الشق القيادي منها في منزل الغنوشي بتونس، ولأنّ تركيا لا تتقاسم حدوداً برية مع ليبيا، التي تقع على بعد 1500 كيلومتر من السواحل التركية، أصبحت تونس هي البوابة الرئيسية، لحل مشكلة الدعم اللوجيستي، في ظل التحفظ الجزائري، الناتج عن ضعف شوكة حركة مجتمع السلم (حمس)، الذراع السياسي للإخوان المسلمين في الجزائر.
كانت زيارة أرودغان إلى تونس في أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2019، نوعاً من جس النبض، وتحديد أقصى ما يمكن لحركة النهضة تقديمه من دعم للمشروع التركي في ليبيا، لكنّ التحفظ الذي أبداه الرئيس قيس سعيّد، وإعلانه رغبة تونس في انتهاج سياسة الحياد، وهي نفس رغبة الجيش التونسي، دفع أردوغان إلى تغيير إستراتيجيته، بطرق الأبواب الخلفية، من خلال دفع النهضة إلى انتهاج سياسات خفية، تستهدف توريط تونس عبر اتفاقيات اقتصادية، تؤدي إلى تغول أنشطة المحور القطري/ التركي، وفي نفس الوقت تمرير مساعدات إلى حكومة الوفاق عبر ممرات حدودية، باستغلال حالة الارتباك العام، والإغلاق الجزئي في تونس، جراء تفشي وباء كورونا، وعليه تتواصل الأدوار السريّة التي تنتهك بها حركة النهضة السيادة التونسية، في ظل تجاهل الغنوشي صفته كرئيس لمجلس نواب الشعب، منضوياً تحت لواء العثمانية الجديدة، تارة بإجراء مباحثات سرية مع أردوغان، وتارة أخرى بإجراء اتصالات لا يفصح مضمونها مع حلفائه في ليبيا، وكان آخرها ما فضحه بيان ما يسمى بـ”المجلس الأعلى للدولة الليبي”، حين أعلن أنّ رئيسه خالد المشري، القيادي بحزب العدالة والبناء، تلقى اتصالاً من راشد الغنوشي، وهو ما دفع الحزب الدستوري الحر إلى المطالبة بالتحقيق مع الأخير.
تتداخل الأدوار في الملف الليبي الشائك، والمرشح لمزيد من التعقيد، في ظل الإصرار التركي على التدخل الفج، مباشرة أو عن طريق الوكلاء في المغرب العربي، لكنّ اعتبارات الأمن القومي لدى مصر، تجعلها تعلن أقصى درجات الاستعداد، لمواجهة الاعتداء التركي، الذي يهدف إلى تحويل ليبيا إلى مرتع لجماعات الإرهاب، بالإضافة إلى ضغط المعارضة المدنية في تونس على عصابة النهضة، مع سقوط اتفاق الصخيرات، وعدم شرعيته جملة وتفصيلاً، واصطفاف البرلمان الليبي خلف الجيش الوطني، كل هذا من شأنّه تحويل مسار الأحداث، وعودة الخليفة التركي بخفيْ حنين.
نقلا عن حفريات