سياسة

صفقة القرن.. خاب المقامرون ولو صدقوا


“تسعون بالمئة من أوراق اللعبة في يد أمريكا”.. تموضعت هذه المقولة التي أطلقها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، في المشهد السياسي العربي، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وباتت راسخة ضمن جملة من المبادئ والمفاهيم المغلوطة، لتضع حصاد النضال العربي طيلة أكثر من نصف قرن في سلّة واحدة تملؤها الثقوب الواسعة.

لم تكن الولايات المتحدة، ومنذ مؤتمر بالتيمور في العام 1942، طرفاً محايداً على الإطلاق، وقد حرصت الحركة الصهيونيّة على تحويل مركز ثقلها من لندن إلى واشنطن، في ظل رفضها القاطع للسياسة التي انتهجتها إنجلترا لمنع الهجرة اليهودية غير الشرعية، عقب إصدار الكتاب الأبيض في العام 1939.

ومنذ أصبح الحفاظ على الوطن القومي اليهودي، الذي قام عدواناً واغتصاباً، أحد أهم الأوراق الانتخابية، باتت المزايدة بين الساسة الأمريكيين على الحقوق العربية أمراً مألوفاً، ولم يكن الضغط الذي مارسته إدارة أيزنهاور على تل أبيب في أعقاب حرب السويس العام 1956، سوى نوع من التعبير المكتوم عن الغضب من قيام إسرائيل منفردة بالتخطيط مع إنجلترا وفرنسا، لشن الحرب دون استشارة واشنطن، خاصة مع النتائج الكارثية التي ترتبت على العدوان، والتي مكّنت الاتحاد السوفييتي من التهام المجر، وصعود نجم جمال عبد الناصر، مع دخول موسكو كفاعل مركزي ومباشر في قضايا المنطقة.

مبدأ أيزنهاور ومحاولات تمرير الاحتلال

سرعان ما سيطرت الإدارة الأمريكية على غضبها، ليعلن أيزنهاور مبدأه الشهير لملء الفراغ في الشرق الأوسط، وبمقتضاه، أصبحت المساعدات الأمريكية لدول المنطقة مشروطة بالسلام الكامل مع إسرائيل، دون أن تقدم الأخيرة أيّ بادرة لحسن النوايا.

وعلى الرغم من رؤية كينيدى الأكثر موضوعية لمفردات الصراع وعناصر الحل، إلا أنّه لم يستطع منع المؤسسات العسكرية في بلاده من مدّ يد العون العسكري لإسرائيل؛ لضمان تفوقها على كل دول الجوار العربي، ففي اليوم نفسه الذي قام فيه بتوبيخ بن غوريون بسبب النشاط النووي الإسرائيلي، كان الأخير يعقد اتفاقاً سريّاً مع البنتاغون لتزويد بلاده بقدرات نووية جديدة، قبل أن يأتي جونسون بوجهه المكشوف؛ لينتهج سياسات أكثر فجاجة في تأييد النهج العدواني لإسرائيل، والانخراط المباشر في مشاريعها التوسعية إبان حرب حزيران (يونيو) العام 1967.

ومع تراجع الدور الخارجي للاتحاد السوفييتي، تحت وطأة جملة من العوامل الاقتصادية والسياسية، لعل أبرزها الترهل الجغرافي، أخذ أنور السادات، ربما مدفوعاً بقناعات شخصية، خطوات حادة ومتسارعة تجاه الولايات المتحدة، وكان لزاماً عليه أن يقدم مجموعة من التنازلات السياسية السخيّة، مع القطيعة الكاملة مع سياسات سلفه عبد الناصر، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام الرياح العاتية الآتية من الغرب.

كانت زيارة القدس قفزة نوعية فوق الحاضر والتاريخ، افتقر صاحبها لأبسط مقومات المناورة السياسية، فالاعتراف الذي يسبق نيل الحقوق دشن لحظة انهزامية، ربما ارتكزت عليها فيما بعد كل مآلات الراهن وانكساراته المؤلمة.

الممانعة الشعبية كحائط صد

في العام 1981، وبأمر من السادات شاركت إسرائيل في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهو ما حوّل أرض المعارض إلى ثكنة عسكرية عقب احتجاجات وتظاهرات كبيرة، ما جعل الجناح الإسرائيلي معزولاً، وما تسبب في وفاة الشاعر صلاح عبد الصبور أثناء محاكمة أخلاقيّة من زملائه، وكان وقتها رئيساً لهيئة الكتاب، وبغض النظر عن مسؤوليته من عدمها عن وجود إسرائيل في المعرض، فإنّ الأمر كرّس لهذا الرفض الواسع للتطبيع بشتى أشكاله، لتُمنع إسرائيل من المشاركة بشكل رسمي منذ العام 1987.

ومع الرفض الكامل لسلام “كامب ديفيد” المنقوص، وفي ظل رايات المقاومة المرفوعة هنا وهناك، لم تؤت صفقة القرن الماضي ثمارها، ولم تحقق الحد الأدنى المطلوب من التهدئة، وهو ما تطلّب قلب مفردات الممانعة رأساً على عقب، وتفكيك كل المعطيات القائمة، لصالح صفقة جديدة، ربما لم تكن معالمها قد اتضحت بعد.

حركة حماس كالخنجر في ظهر القضية

خسرت المقاومة علاقتها العضوية بالأرض، وقد تورطت في صراعات عبثية في دول الجوار، قبل أن تقصيها مذبحة صابرا وشاتيلا من مجالها الجغرافي المُقاوم، لتظهر حركة حماس في الأفق، والتي حاولت بدورها السطو على القضية باسم الدين، وتفريغ حركة النضال من بعدها الوطني، بردها إلى السماء، انتظاراً لوعد الآخرة، لتخلق نفسها مبرراً للوجود في السلطة، وممارسة كافة صنوف الانتهازية السياسية.

وفي أعقاب “الربيع العربي”، وتفكيك الدول المركزية، بات الهامش يلعب أكثر الأدوار الرخيصة فجاجة، وبين يد إيران الطولى، وجناحها العدواني المتمثل في حزب الله، والتدخلات التركية المشبوهة، والتي اتخذت من جماعة الإخوان المسلمين جسراً للمرور إلى العمق العربي المترهل، خرجت صفقة القرن الجديدة إلى النور، في محاولة لإطلاق رصاصة الرحمة على وطن يلفظ أنفاسه منذ عقود.

يمكن القول إنّه منذ أوسلو لم يقدم الراعي الحصري الأمريكي خطوات موضوعية جادة، للضغط على إسرائيل، ومنع عدوانها المتكرر على الفلسطينيين، أو وقف حركة الاستيطان، مع انخراط جناحي السلطة في الضفة وغزة في صراع عبثي لا طائل منه، قبل أن يكشف اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل عن النوايا الحقيقية للإدارة الجمهورية.

خاب من ظن أنّ الحل العادل بيد واشنطن، وخاب من ظن أنّ أيّ حل غير عادل يمكن تمريره، فبدون الحقوق التاريخية المشروعة، وأولها القدس وحق العودة، تصبح صفقة القرن وكل قرن خاسرة، وعلى كل مقامر أن يدرك تبعات مقامرته.

نقلا عن حفريات

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى