تحقيقات

سيطرة هجليج والتحول الأميركي: الخرائط المخبأة للحرب السودانية


لم يكن ما نُشر خلال يومي 8 و9 ديسمبر 2025 مجرد تغطية إخبارية عابرة لتطورات الحرب في السودان، بل كان بمثابة كشف تدريجي لطبقات أعمق من الصراع، حيث التقت ثلاثة تقارير صادرة عن قناة “الحرة” وهيئة الإذاعة البريطانية BBC لتُظهر صورة مختلفة تمامًا عمّا حاولت سلطة بورتسودان ترسيخه طوال الأشهر الماضية. هذه التقارير، عند تفكيكها وربطها ببعضها، تكشف أن السيطرة على الموارد، والتحول في الموقف الأميركي، وتوثيق الانتهاكات الجوية ليست مسارات منفصلة، بل حلقات في سلسلة واحدة تعيد تعريف موازين القوة داخل السودان وخارجه.

هجليج: السيطرة الصامتة التي هزّت الاقتصاد قبل الجبهات

التقرير الأول لقناة “الحرة” سلّط الضوء على سيطرة قوات “تأسيس” على حقل هجليج النفطي في جنوب كردفان، في تطور وصفه مراقبون بأنه أحد أخطر التحولات الميدانية منذ اندلاع الحرب. هجليج لا يمثل مجرد موقع نفطي داخل السودان، بل يشكل القلب النابض لمنظومة تصدير نفط جنوب السودان، إذ تتم فيه عمليات المعالجة قبل ضخ الخام عبر خط الأنابيب وصولًا إلى ميناء بورتسودان.

اللافت في هذا التطور لم يكن التقدم العسكري بحد ذاته، بل الطريقة التي تم بها. مصادر حكومية في بورتسودان أكدت أن جيش البرهان وعمال المنشآت انسحبوا بالكامل دون مقاومة، تفاديًا لاشتباكات قد تُلحق أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية النفطية. هذا القرار يعكس إدراكًا ضمنيًا بأن أي مواجهة في هجليج قد تتحول إلى كارثة اقتصادية، ليس فقط للسودان، بل أيضًا لجنوب السودان الذي يعتمد على هذا المسار لتصدير نفطه.

بسيطرتها على هجليج، انتقلت قوات تأسيس من موقع القوة العسكرية إلى موقع التأثير الاقتصادي. فهي باتت تمتلك قدرة فعلية على التأثير في مورد حيوي يدر عملة صعبة تُعد شريانًا أساسيًا لسلطة بورتسودان. ورغم إعلان قوات تأسيس عبر قنواتها في “تيليغرام” التزامها بحماية المنشآت وعدم تعطيل الإمدادات، فإن هذا التعهد لم يبدد مخاوف الأسواق النفطية، التي تدرك أن أي خلل أمني أو قرار سياسي مفاجئ قد يعطّل الصادرات ويشعل أزمة إقليمية أوسع.

واشنطن تغيّر قواعد الاشتباك السياسي

في التقرير الثاني، انتقلت قناة “الحرة” من الجغرافيا النفطية إلى دهاليز السياسة الأميركية، كاشفة عن تحول لافت في تعامل إدارة الرئيس دونالد ترامب مع الملف السوداني. وزير الخارجية ماركو روبيو أكد أن ترامب يتابع الأزمة السودانية بشكل شخصي، وهو ما يعكس انتقال الملف من مستوى الإدارة الروتينية إلى مستوى القرار السياسي المباشر في البيت الأبيض.

هذا التحول لم يأتِ من فراغ. التقرير حدد ثلاث عقد رئيسية تقف في طريق أي تسوية أميركية. أولها الخلاف الحاد بين رؤية واشنطن والرباعية الدولية من جهة، وموقف جيش البرهان من جهة أخرى، خاصة فيما يتعلق برفض سلطة بورتسودان الانخراط في حوار تشارك فيه الإمارات. هذا الرفض، الذي لم يُدعّم بأدلة ملموسة على الاتهامات الموجهة لأبوظبي، بات يُنظر إليه في واشنطن كتعطيل سياسي متعمد أكثر منه موقفًا سياديًا.

العقدة الثانية تتعلق بملف الإسلاميين داخل الجيش. فواشنطن، وفق التقرير، لا تقتنع بنفي المؤسسة العسكرية وجود تيارات إسلامية فاعلة في صفوفها، في وقت تتجه فيه الولايات المتحدة إلى تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية أجنبية. هذا التناقض يضع جيش البرهان في موقع حرج، ويجعل أي انفتاح أميركي عليه مشروطًا بإجراءات لا يبدو أنه مستعد لها.

أما العقدة الثالثة فهي القاعدة الروسية المحتملة في بورتسودان. بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل هذا الملف خطًا أحمر، نظرًا لحساسية البحر الأحمر وأهميته الاستراتيجية. وجود روسي دائم في هذا الموقع يعني، من وجهة النظر الأميركية، إعادة رسم خريطة النفوذ في أحد أهم الممرات البحرية في العالم.

تحقيق BBC: الأرقام التي كسرت جدار الصمت

بينما كانت تقارير “الحرة” تفكك موازين القوة السياسية والاقتصادية، جاء تحقيق BBC ليضع الحرب السودانية تحت مجهر أخلاقي وقانوني صارم. التقرير كشف، استنادًا إلى بيانات مشروع “شاهد السودان”، أن القوات الجوية السودانية نفذت غارات جوية أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 1700 مدني منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023.

التحقيق وثّق استهداف أحياء سكنية، وأسواق، ومدارس، ومخيمات نازحين، مستخدمًا ما وُصف بأنه أكبر قاعدة بيانات معروفة للغارات الجوية في هذا الصراع. الأخطر من ذلك أن التحليل أظهر استخدام قنابل غير موجهة في مناطق مأهولة بالسكان، ما يعني أن سقوط أعداد كبيرة من المدنيين لم يكن نتيجة أخطاء معزولة، بل نتيجة نمط عملياتي متكرر.

هذا التقرير لا يضيف فقط بُعدًا إنسانيًا مأساويًا، بل يضع الجيش السوداني أمام مساءلة دولية محتملة. ففي لحظة تعيد فيها واشنطن تقييم علاقتها بسلطة بورتسودان، تأتي هذه الأرقام لتقويض أي سردية تبريرية، وتفتح الباب أمام ربط الحل السياسي بملفات المحاسبة والانتهاكات.

مشهد واحد بثلاث زوايا

عند قراءة التقارير الثلاثة معًا، يتضح أن السودان يقف عند مفترق طرق خطير. سيطرة قوات تأسيس على هجليج كشفت هشاشة سيطرة سلطة بورتسودان على الموارد، والتحول الأميركي أظهر أن صبر واشنطن بدأ ينفد، بينما جاء تحقيق BBC ليضع الكلفة الإنسانية للحرب في صدارة الاهتمام الدولي. هذا التلاقي بين النفط والسياسة والدم يعيد تعريف الصراع، ويشير إلى أن المرحلة المقبلة لن تُحسم بالسلاح وحده، بل بميزان معقد تتداخل فيه المصالح الدولية مع ملفات الحقوق والمساءلة.

ما بعد ديسمبر 2025 لن يكون كما قبله، ليس لأن جبهة تقدمت أو تراجعت، بل لأن الرواية نفسها بدأت تتغير، ومعها موقع كل طرف في نظر العالم.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى