سياسة

هل يفعلها “زيلينسكي”؟

عبدالحميد توفيق


هل لا يزال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قادراً على توجيه سفينة بلاده تحت وطأة وتلاطم أمواج مصالح الآخرين؟

وهل فرصة إيصال السفينة الأوكرانية إلى شواطئ آمنة تتقلص تدريجيا مع فجر كل يوم من النزاع، أم أنها لا تزال متاحة؟

تَولّد هذا السؤال من رحم المواقف، التي كررها “زيلينسكي” خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من عمر النزاع الذي تعيشه بلاده مع روسيا.

في أكثر من إطلالة، عبّر “زيلينسكي” عن خيبة أمله من المواقف الغربية الأطلسية والأمريكية ووصفها بأنها “لا ترقى إلى مستوى أمنيات الشعب الأوكراني الذي يكابد ظروفا قاسية مترافقة مع مناخ لا يقل قسوة”.

شخّص الرئيس الأوكراني وقائع النزاع مع روسيا بدقة، ولم يُسقط من حساباته دروب السلام الممكن.. تحدث عن رفض الغرب لكثير من مطالب بلاده، العسكرية مثل تزويدها بالطيران، أو إقامة مناطق حظر جوي غرب بلاده، والسياسية المتعلقة بضم بلاده إلى هياكل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

رغباتٌ، أو لِنَقُل مساع ليست جديدة، إنها قديمة قِدم ميول كييف منذ تسعينيات القرن الماضي نحو النموذج الأوروبي الغربي، لكنها لم تجد حواضن لها في أروقة السياسيين الأطلسيين ولا الأمريكيين.. اقتصر صدى الرغبات الأوكرانية على “وعود ومماطلة” أمريكية وغربية ممزوجة بـ”الغمز” من أبعاد هكذا تحوّل في حال حصوله، على ميزان القوى الدولية مع روسيا.

الإحباط، الذي أفصح عنه الرئيس الأوكراني إزاء واشنطن والغرب وكرره مرات عدة يعكس القناعة لديه ولدى شركائه في السلطة بأن قدرتهم حالياً على أن يكونوا الطرف المباشر في المفاوضات مع موسكو لا يقل ضرورة وأهمية عن كونهم الطرف الذي يخوض المواجهات في ساحات النزاع، وأن الفرصة السانحة اليوم للحديث مباشرة مع الجانب الروسي قد لا تتوفر لاحقاً مع مرور الأيام ومتاهات الصراع وتحولاته غير المنظورة، وما قد يطرأ على مواقف واشنطن وحلفائها الأطلسيين عندما تتراجع قدرات الأوكرانيين وتتآكل على مختلف الصُّعُد، ميدانيا وسياسيا، نتيجة النزاع الدائر.

الانخراط في مسارات التفاوض مختلفة المستويات عزّزتها مواقف أطلقها “زيلينسكي” باستعداده للحوار وإعلانه رسميا بأن “كييف لم تعد مهتمة بالانضمام للناتو، الذي يخشى المواجهة مع روسيا، والذي أظهر أنه غير مستعد لقبول أوكرانيا”.

قبل أسبوعين ألمح الرئيس الأوكراني في مقابلة مع قناة “إيه بي سي نيوز” الأمريكية إلى أنه “منفتح على مناقشة مسألة التنازل” بشأن جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك في منطقة دونباس الشرقية، وحول وضع شبه جزيرة القرم.. رسائل تتخطى حدود الإحساس بالضعف أو التراجع أو التردد، إنها محاولة واعية لإبقاء خيوط اللعبة -أو ما تبقى منها- بيده وبيد سلطته، وتنبيه الأمريكيين والغرب إلى خياراته، التي يمكن تفعيلها باتجاه موسكو.

مردُّ كل ذلك عوامل ثلاثة، أولها الإصرار الروسي على وضع حد لهذه المنازلة مع واشنطن والناتو، حتى لو كانت على حساب وجود دولة أوكرانيا حاضرا ومستقبلا، ثانيها انكشاف ظهر واشنطن والغرب أمام الأوكران خاصة، والعالم بشكل عام، بعد إعلانهم عدم الاستعداد لخوض مواجهة مباشرة تحت أي ظرف مع الجانب الروسي، والاكتفاء بالتخفي خلف سردياتهم الإنسانية ومرثياتهم للشعب الأوكراني، أما ثالث العوامل فَيُتَضمّن في الخشية الأوكرانية من استغلال واشنطن والغرب لقضيتهم ومعاناتهم وتحويلها إلى ورقة تفاوضية على طاولة المقايضات الكبرى مع موسكو لاحقا، لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية على حساب الشعب الأوكراني ودولته، بعد أن يستكمل الغرب والولايات المتحدة إحكام الطوق على “زيلينسكي” وحكومته ويستحوذون على قراره السيادي تحت ضغوط النزاع المستعر على أراضي بلاده ومتطلباتها.

الدبلوماسية الروسية ليست غائبة عن مجمل هذه المقاربات، ترجمتها بلقاء وزير خارجيتها مع نظيره الأوكراني في تركيا، وبلقاءات على مستوى ممثلي البلدين في بيلاروسيا.. ردت على طرح الرئيس الأوكراني للقاء نظيره الروسي بموافقة مشروطة تخص مطالبها الأمنية والسياسية.

الأبواب لا تزال مشرعة على الخيار الدبلوماسي بين كييف وموسكو.. فما احتمالات التعطيل من قبل الغرب وواشنطن لمثل هذه النزعة الاستقلالية التي يبديها “زيلينسكي” في حال تحولت إلى واقع؟ وهل هو جاد في موقفه فعلا أم يحاول “ابتزاز” الغرب وواشنطن ليس إلا؟

بالنظر إلى التباينات بين واشنطن والغرب حيال أولويات واستراتيجيات كل منهما المرتبطة بطبيعة العلاقات والمصالح المتشابكة مع روسيا، فإن الأسئلة التي تحيط بهذا الاحتمال كثيرة، بشكل أساسي تدور حول المصالح المتوخَّى تحقيقها لجميع الأطراف.

إذا كان التوصل إلى حل وسط بشأن المطالب الأمنية الروسية -لا سيما المتعلقة برفض عضوية أوكرانيا في الناتو والتوسع الإضافي للحلف- ممكناً، فإن كييف ستجد نفسها أقرب إلى التفاهم مع موسكو بعد أن خبرت أهوال النزاعات وعدم جدواها، وبعد أن أيقنت أنها مجرد مضمار لصراع قوى خارجية لا تأبه إلا لمصالحها.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى