هل يسعى “بوتين” إلى إحياء الاتحاد السوفييتي؟

د. علي الدين هلال


في مثل هذا اليوم من ثلاثين عاماً -تحديداً في 25 ديسمبر 1991- أعلن ميخائيل جورباتشوف رئيس الاتحاد السوفييتي استقالته.

وكان ذلك إيذاناً بتفكُّك هذا الاتحاد، الذي تكوَّن عام 1922 باسم اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية.  

ومع هذا الإعلان، انطوت صفحة من تاريخ العالم، وهي تلك التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، واتَّسمت بوجود قطبين كبيرين في النظام الدولي، وهما: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. اختفى الاتحاد السوفييتي وحلّ محله 15 دولة جديدة، أكبرها روسيا. 

وفي الأسابيع الماضية، عاد اسم الاتحاد السوفييتي ليتردد في وسائل الإعلام على أكثر من شكل.

فعلى سبيل المثال، استخدم وزير الدفاع الأمريكي تعبير “الاتحاد السوفييتي” في مجال نقده لروسيا واتهامها بـ”التخطيط لغزو أوكرانيا”، ولم يتضح ما إذا كان ذلك مقصوداً أم أنه زلة لسان. واتهم كثير من رجال السياسة والإعلام في أمريكا وأوروبا الرئيس الروسي “بوتين” بأنه “يسعى لإحياء الاتحاد السوفييتي”.

فهل هذا صحيح؟ وما نصيب هذه الادعاءات من الحقيقة؟ 

لكي نضع هذا الموضوع في سياقه تنبغي الإشارة إلى أن ذكريات هذا التفكُّك ما زالت حاضرة وحيَّة لدى كثير من الساسة الروس حتى يومنا هذا. إذ وصف فياتشيسلاف فولودين، رئيس مجلس الدوما، هذا التفكك بأنه “خيانة النخبة السوفييتية الحاكمة وقتذاك للدولة والوطن”. وجادل روسلان خسبولاتوف، آخِر رئيس لمجلس السوفييت الأعلى، بأن هذا التفكُّك “لم يكن حتمياً”، وأنه حدث “متعمَّد” من قِبَل “مجموعة من ضعاف الشخصية والجهلاء وعديمي الموهبة، الذين تَصادَف وجودهم في السلطة”. 

واتصالاً بذلك، يرى الرئيس “بوتين” أن انهيار الاتحاد السوفييتي مثَّل “أكبر كارثة جيوسياسية حدثت في القرن العشرين”، وتحدَّث عن هذا الموضوع أكثر من مرة في عام 2021.

ففي أكتوبر، دافع عن الدور السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، وقال إننا لن نسمح بتشويه التاريخ. وفي ديسمبر، أشار “بوتين” إلى أن تفكُّك الاتحاد السوفييتي بمثابة “انهيار لروسيا التاريخية”، وذلك في فيلم وثائقي بثَّه التليفزيون الرسمي الروسي. 

لا شك أن “بوتين” يحتفظ بذكريات طيبة عن المرحلة السوفييتية. فقد عاش فيها مرحلة صباه وشبابه. وُلد الرجُل عام 1952 في مدينة لينينجراد وتخرَّج في كلية الحقوق بالمدينة عام 1975، ثم عمل ضابطاً بجهاز أمن الدولة “KGB”، الذي أرسله للخدمة في ألمانيا الشرقية عام 1985، واستمر عمله بالجهاز حتى استقالته عام 1991. ومن ثَم فهو ابن جهاز الدولة السوفييتية.  

لا بد أن “بوتين” يختزن أيضاً في ذاكرته المِحَن والآلام التي تعرضت لها روسيا في تسعينيات القرن العشرين داخلياً وخارجياً. 

ففي الداخل، تمت عملية خصخصة غير مخططة للقطاع العام استفاد منها المغامرون والقريبون من مراكز السلطة، وتم بيع أصول الدولة بأقل كثيراً من أثمانها الحقيقية، وتهريب وثائق أمنية ونقل تكنولوجيات عسكرية إلى دول أخرى مقابل المال، وتدهورت أوضاع معيشة الشعب الروسي بشكل لا مثيل له، ما أدى إلى ارتفاع أعداد الوَفَيات عن أعداد المواليد، واستمر هذا الوضع حتى عام 2010. 

وفي الخارج، اتبع بوريس يلستين، أول رئيس للجمهورية الروسية، سياسة موالية للغرب. واستغلت الولايات المتحدة هذا الوضع لبسط نفوذ حلف الأطلنطي في دول شرق أوروبا والدول الوريثة للاتحاد السوفييتي. ووقتها وعدت أمريكا “يلستين” شفهيا بأن حلف الأطلنطي لن يتوسع شرقاً أو يقترب من الجوار الروسي. وهو الأمر الذي لم يلتزمه الحلف في 2008، وذلك بأن دعا أوكرانيا للانضمام إليه، واعترضت عليه موسكو بقوة، وهو مصدر المواجهة القائمة الآن بين روسيا والغرب. 

جاء هذا الاعتراض بعد أن استعادت روسيا عافيتها الاقتصادية والعسكرية في عهد الرئيس بوتين، الذي سعى لاستعادة المكانة الدولية لروسيا في العلاقات الدولية. وهو ما ظهر في العقيدة العسكرية الروسية لعام 2014، والتي اعتبرت حلف الأطلنطي مصدر “التهديد الأساسي” للأمن الروسي، وأكدت عزمها على الدفاع عن مصالحها الحيوية في “دول الجوار”. 

وتطبيقاً لذلك، تقوم روسيا بتنمية صناعاتها العسكرية الذكية على نحو متزايد. وفي عهد “بوتين”، اتخذت روسيا مواقف صارمة تجاه ما اعتبرته تهديدات مباشرة لأمنها القومي، فأرسلت جيشها للحرب ضد جورجيا عام 2008، وتحشد الآن ما يقرب من مئة ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا. 

يجادل “بوتين” بأن الغرب يقوم بتطويق روسيا وحصارها من خلال التهديد بتوسيع حلف الأطلسي شرقاً ونشر أسلحة نووية في مناطق الجوار الروسية، ما يُمثِّل تهديداً مباشراً للأمن الروسي. 

واعتقادي، أننا إزاء قضية أمنية بشكلٍ أساسي، وأن روسيا تسعى للحصول على ضمانات أمنية من أمريكا وحلف الأطلنطي. ومن ثَم، فإن الموضوع لا علاقة له بحلم استعادة الاتحاد السوفييتي من قريب أو بعيد، فـ”بوتين” سياسي واقعي يدرك استحالة تحقيق مثل هذا الهدف، وله كلمة بليغة في هذا الشأن قال فيها: 

“إن مَن لم يحزن لانهيار الاتحاد السوفييتي، فهو شخص لا قلب له.. ومن يسعى لإعادة الاتحاد السوفييتي، فهو شخص لا عقل له”.

العين الإخبارية

Exit mobile version