خلال الأسبوع الماضي، أعلن ملك الأردن عبدالله بن الحسين أن بلاده مستعدة للانضمام إلى “حلف ناتو شرق أوسطي”، عندما يخرج المشروع إلى العلن، ما يعني أن الكلام عن مبادرة كهذه قائمة، وتتنقل بين عاصمة وأخرى منذ بضع سنوات، وقد تحقق جزء منها بتحالفات أطلقتها السعودية ومصر والإمارات منذ أقل من عقد تقريباً.
وباتت “التحالفات الإقليمية” المحدودة قواعد تاريخية لما يمكن أن يتحول إلى “حلف شرق أوسطي” متكامل من “المحيط إلى المحيط”، على نمط NATO، ومتكامل معه، لكنه ذاتي القرارات. وقد كثر الكلام الإعلامي عن كتلة محتملة كهذه، في كل اتجاه، وتكاثر التنظير حولها، لكن ليس دائماً في إطارها التاريخي. وقد خرجت علينا مقالات في الغرب أخيراً تتبنى المشروع لكن من دون معرفة تاريخه ومطباته والأخطار المحدقة به، بدقة، وشروط نجاحه، لذلك سنحاول تلخيص أساس هذه الأفكار والتعليق عليها ونشارك في النقاش الأميركي والعربي والشرق أوسطي حولها.
شهادتي المتواضعة
خلال الأعوام التي تلت ضربات 11 سبتمبر (أيلول)، شاركت في اجتماعات استراتيجية للقيادة المركزية الأميركية CENTCOM والقيادات العسكرية الأخرى، وقدمت شهادات إلى الكونغرس وإلى المجموعة النيابية الأطلسية حول أنجح السبل لمواجهة الخطر الإرهابي الإسلاموي (المسمّى بـ”جهادي قتالي” في الغرب)، والتمدد الإيراني، وهما التحديان الأساسان في منطقة الشرق الأوسط.
وتم التركيز على كيفية الاتكال على تحالفات إقليمية لمواجهة الأخطار. وكانت اللوبيات الإيرانية والإخوانية تنشر المقولات حول استحالة انطلاقة تحالفات كهذه تساند الغرب في مواجهة الإرهاب، لانعدام الإرادة في الدول العربية وسوء حكوماتها ورفض الشعوب لها. وبالطبع، نظرت اللوبيات هذه إلى “شراكة” مع الإخوان، أو إلى “اتفاق” مع إيران، كبدائل عن تكتل من الدول العربية والمشرقية المواجهة للإرهاب. وسارع فريق العمل الخارجي لإدارة أوباما منذ 2009 إلى التواصل مع القيادة الإيرانية ومع الحركات الإخوانية تماشياً مع اقتراحات اللوبيات هذه، وانعدام الثقة بعرب الاعتدال وبالمجتمعات المدنية في المنطقة. ونشرتُ كتابين في 2009 و2014 منتقداً هذه المقاربة، ومؤكداً للقراء أن أكثرية شعوب المنطقة ترفض الراديكاليين، وأن دولها ستتقدم باتجاه التحالف ضد الإرهاب مع الوقت، حتماً. ووصفتُ المشروع بمقال في 2010 بـ”الناتو العربي” أو الشرق أوسطي. وهذه خلاصة مراقبتي للمبادرات التي أسست له طيلة عقد.
“تحالفات الربيع”
أول تحركات تحالفية إقليمية لمواجهة الأخطار الإرهابية أتت من السعودية، عندما وقفت إلى جانب ثورة الشعب المصري في 2013، حينما انتفض ضد نظام جماعة الإخوان، الممثل في الرئيس الراحل محمد مرسي، فتأسس أول تحالف فعلي ضد الإرهاب والتطرف بين دول عربية حليفة للولايات المتحدة، حيث شكّل المحور السعودي المصري أساس الحلف. وابتداءً من 2014، أطلقت المملكة أيضاً تحالفاً عربياً إسلامياً لمواجهة “الميليشيات الإيرانية” في اليمن، وقادت حملة عسكرية لمقاومة الحوثيين، شملت القوات الشرعية (الشمالية) والجنوبية في عدن. ومنذ العام ذاته، شاركت السعودية والإمارات والأردن في عمليات جوية ضد “داعش” في سوريا، بالتنسيق مع “ناتو” وشركائه.
كما نسقت كل من مصر والإمارات وفرنسا، دعمها للجيش الوطني الليبي في صدامه مع “القاعدة” و”داعش” والميليشيات الإسلاموية المقاتلة منذ 2015. وتوسع هذا التكتل المناهض للإرهاب في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة ليشمل قبرص واليونان. وانطلقت تدريبات جوية وبحرية يونانية سعودية، وفي ما بعد إماراتية قبرصية يونانية إسرائيلية.
أما اللحظة التي شكلت القاعدة الأساسية الواسعة لظاهرة “ناتو إقليمي” فكانت مع لقاء ترمب أكثر من خمسين زعيماً عربياً ومسلماً بقمة الرياض في مايو (أيار) 2017.
التحالف الإبراهيمي
وبمبادرة أخرى باركتها واشنطن، خرجت من المنطقة “معاهدة إبراهيم” بين الإمارات والبحرين وإسرائيل وتوسعت في ما بعد لتشمل السودان والمغرب، وهي في طريقها لتتوسع إلى أكثر من دولة في الشرق الأوسط الكبير، مع الوقت. وهناك واقعان لا بد من التوقف عندهما لفهم أعمق للمعادلة التي تربط المعاهدة الإبراهيمية بالواقع الإقليمي؛ الأول، كما كتبنا سابقاً، القوة المعنوية وراء هذه التحالفات، والمباركة لها، هي القيادة السعودية التي تدعمها وتسمح بها وتشرعها، أكانت من ضمنها أو خارجها، والولايات المتحدة والغرب يعلمان بذلك ويتصرفان على هذا الأساس، ما يفسر اهتمام الإدارات الجمهورية والديمقراطية بالعلاقة الثنائية مع الرياض.
أما الواقع الثاني، فهو تطور “معاهدة إبراهيم” تدريجاً إلى حلف عسكري بين التحالف العربي وإسرائيل، كما تشير إليه الاتفاقات الأمنية المتتالية بين الإمارات والبحرين من ناحية، والحكومة الإسرائيلية من ناحية أخرى. وقد تشكل هذه المنصة قاعدة لجذب تعاون دول متوسطية وأوروبية وأطلسية وأفريقية، فلا حدود للاحتمالات الآتية.
موقف المملكة يبدو وكأنه بات مركزياً في كل هذه الحلقات المتحالفة، من الخليج إلى البحر المتوسط، كانت الرياض عضواً في معظمها أو لا، لكن هذه الدول، والغرب بشكل عام، ينظران إلى السعودية باعتبارها عصب التكتلات المواجهة للإرهاب ومفتاح الاستقرار الأوسع بين غرب آسيا وشرق أفريقيا. فالقيادة السعودية قد تموقعت منذ سنوات كلاعب ينسق بين الدول في الإقليم، ويطلق المبادرات الدبلوماسية، ويهندس التوقيت، فلوحظ وجود الرياض الاستراتيجي من هرمز إلى سيناء، ومن سماء البحر الأحمر إلى أجواء بحر إيجه.
وإذ يتم بناء حلف الشرق الأوسط الكبير تدريجاً، خطوة خطوة، تبدو خطوات السعوديين وكأنها متأنية لكنها ثابتة. فهي تقود حلفاً في جبهة اليمن، لكنها تتحمل الضغط الدبلوماسي الآتي من واشنطن، وانفجارات الصواريخ الباليستية “الإيرانية” على أراضيها وفي أجوائها. تدعم أهم مشروع دبلوماسي بالنسبة إلى الشعب الأميركي، وهو “معاهدة إبراهيم”، وتبقى خارجه حتى تجد حلاً يرضي الرأي العام العربي تجاه الملف الفلسطيني. وكأن الرياض أيدت شركاءها في أبو ظبي والمنامة ليشبكوا الأيادي مع الإسرائيليين، فبات من الصعب على تل أبيب ألا تدافع بكل قوتها السياسية عن الخليج داخل أميركا، فحمت المملكة نفسها بشكل غير مباشر من اللوبي الإيراني. كل ذلك يشير إلى بناء منظومة قوية ومعقدة قد تتحول إلى “ناتو شرق أوسطي كبير”.
الرد الإيراني
بالطبع، إن القوى التي حاولت وستحاول استباق واعتراض وإجهاض مشروع “ناتو الشرق الأوسط” هي نفسها التي واجهت وعارضت وقاتلت أركان تحالف كهذا في اليمن وليبيا والعراق وسوريا وسيناء ولبنان. ومن المنتظر أن تشن عليه حملات متلاحقة، إما في المنطقة، أو داخل العواصم الغربية. وهذه القوى تتمحور حول النظام الإيراني و”مستعمراته” من ناحية، و”الإسلاميين القتاليين” من ناحية أخرى. ففي المنطقة، ستحاول إيران أن تفجر خلافاً بين الرياض وواشنطن حول اليمن، وأن تخلق تباعداً بين عواصم التحالف، وتستعمل حلفاءها الدوليين لتضغط على خصومها كي لا يشكلوا تحالفات “قد تأتي بحروب على المنطقة”.
ولدى طهران سلاحان إضافيان: إما أن تقبل بالشروط الأميركية للاتفاق النووي مقابل إقناع واشنطن لحلفائها بألا يطلقوا حلفاً شرق أوسطياً واسعاً، أو في آخر المطاف تشن إيران حملات وحروباً بهدف إخافة شعوب تلك الدول وحكوماتها من انهيار اقتصادي. أما القوى الإرهابية والميليشيات المرتبطة بـ”الإسلامويين”، فهي أيضاً قد تتبع النهج ذاته حيث هي قادرة. كل الأبواب مفتوحة.
الحلف يتطور
من المؤشرات الجديدة إلى تقدم الأجندة الخاصة بتشكيل “حلف شرق أوسطي”، الكلام عن دمج الدفاعات الجوية الإقليمية والمناورات البحرية المشتركة، والأهم تنشيط التشاور الأميركي العربي. وتبقى بعض الأسئلة التي سنتعاطى معها في المستقبل: كيف ستؤثر الانتخابات الأميركية هذا العام وفي 2024 في “ناتو الشرق الأوسط”؟ وكيف ستُحل معادلة الملف الفلسطيني مع قيام حلف يضم السعودية وإسرائيل، وأخيراً، كيف سيتعايش الحلف الآتي مع اتفاق نووي مالي مع النظام الإيراني.
نقلا عن “الاندبندتت العربية“