نظرة عاجلة على محطات التوتر والصدام في ذلك المسرح الأوروبي تُفصح عن حيثيات تاريخية أسست لسياق الصراعات الثنائية فوق الجغرافيا الأوروبية على مدى قرون من الزمن، واستقطبت عددًا من الدول لهذا الطرف أو ذاك من المتحاربين، حتى توسعت في أكثر من مُنازلة وتحولت إلى حرب إقليمية، وأحيانا دولية، كما حصل في الحرب العالمية الأولى.
يلتقي علماء الاستراتيجيات عند استنتاج مشترك يعتبرونه أحد أسس البيئة الحاضنة والمحرضة لاندلاع الحرب العالمية الثانية.. ملخص هذا الاستنتاج يقول إن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وفقدانها الأراضي وتصورها لمعاهدة “فرساي” كإهانة غير مقبولة، أثارت استياءً كبيرًا بين صفوف الألمان عمومًا، وتم إذكاؤه وحشده من قبل اليمين الألماني والنازيين لنزع الشرعية عن جمهورية “فايمار”، التي نشأت وسط ألمانيا في الفترة من 1919 إلى 1933 كنتيجة للحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا الحرب، وشهدت صياغة دستور جديد يتماشى مع متطلبات المرحلة، التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وظل معتمَدًا إلى أن تمكن أدولف هتلر من إحكام سيطرته على مقاليد الحكم بتولي منصبَي المستشارية ورئاسة الجمهورية عام 1933، وهو الحدث الذي اعتبره المؤرخون نهاية جمهورية “فايمر”، وكما هو معروف، أدت إعادة تسليح ألمانيا حينها إلى إلغاء الأحكام الرئيسية لمعاهدة “فرساي” وما ترتب عليها.
يقول علماء الاستراتيجية إن اجتناب خوض الحروب لا يتوقف عند قوتها التدميرية أو تكاليفها فقط، ذلك أن عمليات الحصار في بعض الأحيان على القدر نفسه من الدموية والتكلفة.
وبالنظر إلى العقوبات، التي فرضها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على روسيا، منذ تفجُّر النزاع مع أوكرانيا، وهي بإجماع العالم “غير مسبوقة من حيث الشمولية ومن حيث التأثير والتبعات المستقبلية بعيدة المدى”، يضاف إليها الحصار بأشكاله المتعددة، سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا، بالنظر إلى كل ذلك، يبرز السؤال الأكثر إثارة للقلق عن مآلات النزاع، الذي تدرَّج صعودًا إلى حدود يمكن وصفها بـ”الصراع متعدد الأقطاب”، وعما يمكن أن يحمل لاحقا من مخاطر على السلم الأوروبي أولا والعالمي ثانيا.
رهانات الغرب، وواشنطن، في هذا النزاع باتت واضحة، وهي تتمحور عند مسارين، الأول تغذية النزاع بحيث تطول مدته الزمنية ما أمكنهم، بهدف استنزاف روسيا على الصُّعُد كافة، والثاني تكبيل موسكو بقيود العقوبات والحصار المتناميين والمتصاعدين، بحيث يصبُّ المساران نهايةً في إضعاف روسيا.
انضباط المناوشات العسكرية في الميدان من جانب الطرفين الروسي والأوكراني يترافق مع التزام السجال الدبلوماسي والسياسي بينهما وبين موسكو والغرب.. لغة غير تصعيدية تعكس وعي الأطراف جميعها بضرورة إبقاء الاشتباك ضمن دائرة واضحة الخطوط، وعدم السماح لكرة النار بالتدحرج خارجها.
موسكو تحرص على تصدير روايتها بعنوان “عملية خاصة”، ولا بد من تحقيق أهدافها في الشرق الأوكراني وربطه بالجنوب الشرقي لإنشاء شريط جغرافي على الأرض بطابع دفاعي استراتيجي متقدم لمواجهة تمدد “الناتو” في شرق أوروبا وعلى تخوم روسيا، أما كييف، أكثر المعنيين بحيثيات الصراع وتبعاته، فتثقل كاهلها يومًا بعد آخر نزعتُها السيادية الاستقلالية وحتمية صونها من طرف، ومن طرف آخر نزوعها للخروج من هذا الاشتباك الغربي الأمريكي مع روسيا بأقل الخسائر.
تَراجُعُ الجهود الدبلوماسية والمبادرات الدولية وعدم فعاليتها حتى الآن في بلورة نقاط تلاقٍ أولية بين موسكو وكييف يُرجّح فرضية استبعاد الحلول على المدى المنظور.
التأخر في الانتقال إلى ساحات التفاوض يُسهم في تكريس منطق الحرب واستمرار القتال مع كل ما يحمله من مفاجآت قد تفرضها مجريات المعارك وتباعد المواقف، علاوة على التعقيدات، التي تراكمها مفرزات الحرب عليهما.
في سياق النزاع الروسي الأوكراني تتقاطع كثير من الملامح الدالة، إلا أن أفقه مفتوح على احتمالات لا حصر لها.. الوثبة الفنلندية والسويدية نحو هياكل “الناتو” طلبا لعضوية كاملة الأوصاف والمواصفات جزء من تلك الملامح، التي يجري نسج خيوطها بتحريضٍ من هواجس القلق المتنامي لدى هلسنكي واستوكهولم، خشية فوات أوان تأمين مظلة أطلسية لهما.