سياسة

من تعقيدات الأزمة الأوكرانية

د. علي الدين هلال


ليس من المبالغة القول بأن الأمن الأوروبي لم يتعرض لتهديد عسكري في السبعين عاماً الأخيرة يماثل ما تشهده الأوضاع على الحدود الروسية-الأوكرانية وفي أغلب دول القارة حاليا.

ويرجع ذلك إلى أن الأزمة الراهنة نتاج تفاعل مشكلات عدة تتمحور كلها حول نظرة الرئيس الروسي “بوتين” للعالم ولدور روسيا فيه بعد أن قَويت شوكتُها العسكرية.

هناك شعور لدى القيادة الروسية بالتهديدات الأمنية، التي يمثلها سلوك حلف الأطلنطي. وهُناك أيضًا رغبة في تجاوز حالة عدم الاكتراث وفرض الأمر الواقع الذي اتبعته القوى الغربية تجاهها على مدى سنوات، وإعادة النظر في العلاقات الروسية-الأوكرانية، خصوصاً فيما يتعلق بأوضاع الروس، الذين يعيشون في شرق أوكرانيا.

فعلى المستوى العالمي، تتمثل المطالب الأمنية الروسية في عدم توسُّع حلف الأطلنطي مستقبلاً، وهو ما يعني صراحة عدم دعوة كل من أوكرانيا وجورجيا للانضمام للحلف، وعدم وضع أسلحة استراتيجية هجومية في دول شرق أوروبا، أعضاء الحلف، مما يهدد أمن روسيا.

وتثير الدبلوماسية الروسية في هذا الشأن “مخالفة” أمريكا والغرب للتعهدات الشفهية، التي قدمتها سابقا للرئيس “يلتسين” بعدم توسع حلف الأطلنطي.
ويشير الرئيس “بوتين” كثيراً إلى رفض روسيا محاولة الغرب تغيير نتائج الحرب العالمية الثانية.

ويقصد بذلك التسويات السياسية، التي تمت بعد الحرب، والاتفاقيات المبرمة بشأن الأمن الأوروبي، وأهمها اتفاقية الأمن والتعاون الأوروبي، التي وُقعت عام 1975 في العاصمة الفنلندية، هلسنكي.

من جهته، فإن حلف الناتو يرى أن حق الحلف في دعوة أعضاء جُدد لا يجب أن يكون رهينة موافقة أي دولة، بما فيها روسيا، وأن قيام روسيا بحشد ما يزيد على مائة ألف من قوتها المسلحة على الحدود مع أوكرانيا ثم قيامها بمناورات عسكرية كبيرة مع بيلاروسيا يمثل تهديداً لأوكرانيا.. خاصةً، مع البون الشاسع في القدرات العسكرية بين موسكو وكييف.

وهذه قضايا شائكة ولها جوانبها القانونية والسياسية، وهي محل جدل وتفسيرات مختلفة. ويزيد من صعوبتها، العلاقات الخاصة بين روسيا وأوكرانيا.

فالبلدان ينتميان إلى أصول واحدة.. وفي القرن التاسع الميلادي، تأسست دولة قوية في أوكرانيا كانت عاصمتها كييف.. وعلى مدى القرنين التاليين، وُضع أساسُ الهوية الوطنية للأوكرانيين والروس، مما أوجد علاقات تآخٍ وتقارب بين الشعبين.

ومع حلول القرن التاسع عشر، كان الجزء الأكبر من أقاليم أوكرانيا جزءًا من القيصرية الروسية، ثم أصبحت في عام 1922 جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية، إحدى الكيانات المُؤسسة للاتحاد السوفييتي.

لم تكن أوكرانيا إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي الخمسة عشر وحسب، بل كانت دائماً ذات وضع خاص سياسياً واقتصادياً ومعنوياً.

فقد كانت هي الجمهورية الثانية من حيث عدد السكان بعد روسيا، وشهدت تقدماً صناعياً واقتصادياً متميزاً، من مظاهره أن الناتج المحلي الأوكراني مثّل في كثير من السنوات ما يقارب 20% من إجمالي الناتج المحلي السوفييتي، وكان لديها قوتها النووية عند الاستقلال عام 1991، ثم تخلت عنها طواعية بعد ذلك، وانضمت إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية.

ونتيجة لذلك، وبسبب الحدود المشتركة بين البلدين، انتقل أعداد من الروس للإقامة في أوكرانيا، ويبلغ نسبة الذين يعتبرون الروسية لغتهم الأم الآن 17% من شعب أوكرانيا، يتركزون في شرق البلاد، وظهرت بينهم دعوات انفصالية تدعو إلى إقامة نظام حكم ذاتي لهم. وفي أعقاب الاضطرابات السياسية والعسكرية، التي شهدتها تلك المنطقة عام 2014، تم الإعلان عن جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك.

لذلك، تعاملت القيادة السوفييتية في موسكو مع أوكرانيا معاملة خاصة، فحرصت موسكو على استعادة المناطق “المسلوبة” من أوكرانيا، والتي تم ضمها إلى بولندا بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك وفقا لمعاهدة “عدم الاعتداء” بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا في أغسطس 1939.

وفي عام 1954، قرر نيكيتا خروتشوف، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي -وهو أوكراني- نقل تبعية شبة جزيرة القرم من روسيا إلى أوكرانيا.

أفصح “بوتين” عن نظرته لتلك العلاقة الخاصة في مقال نُشر باسمه في عام 2021، والذي انتقد فيه بشدة أولئك الذين يزرعون الفتنة بين الشعبين ويطرحون أن الروس شعب أجنبي بالنسبة للأوكرانيين شأنه في ذلك شأن الشعوب الأخرى، مؤكداً العلاقات الخاصة التي تربط البلدين والشعبين. 

وهكذا، تختلط قضايا توسع حلف الناتو، وضمان الأمن الروسي، والوضع السياسي الداخلي في أوكرانيا، وحماية الأمن الأوروبي في نسيج معقد، يتطلب التعاملُ معه حلولاً سياسية ودبلوماسية تأخذ مطالب ومخاوف كل الأطراف بعين الاعتبار.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى