مصطلح العثمانيون الجدد بين العلم والسياسة
كعادتهم في ممارسة لعبة خلط الأوراق كجزء من حملتهم المضلة، يحاول أتباع العثمانيون الجدد أن يخلقوا حالة من الهلامية والضبابية حول هذا المصطلح “العثمانيون الجدد”. فهم يتهمون من يستخدمونه بأنهم ضعاف العقول، والحجة هي أنه مصطلح سياسي ابتُكِرَ لوصف سياسات حزب العدالة والتنمية، لا لوصف المشتغلين بالتاريخ العثماني…
إذًا.. وفقا لهذا القول الخبيث فقد أصبح كل من يدين عملاء التيار العثماني الجديد بالانتماء له جاهلا ضعيف العقل متهما بتعميم وصف سياسي على كل من اهتموا بتاريخ العثمانيين..
لابد أن صاحب العقلية “الفظة” الذي تفتق ذهنه عن هذا القول يفرك يديه جذلا وهو يهنيء “ذكاءه” على الفخ الذي نصبه لخصومه..
حسنا.. دعونا نفكر بالعقل، لدينا هنا سؤالان هامان للرد عليه.. الأول هو: هل كل من دافع عن العثمانيين وتاريخهم متهم بموالاة العثمانيين الجدد؟ والآخر هو: كيف نميز بين المشتغل بالعلم وذلك المشتغل بالسياسة مستترًا بالعلم؟
أما عن إجابة السؤال الأول: فبالتأكيد ليس كل من دافع عن العثمانيين البائدين بموالٍ لتيار العثمانيين الجدد، ولا بالعميل ضد وطنه وأمته.. فالاختلاف في الرأي هو من سنن الحياة، والاختلاف في قراءة التاريخ وتحليله وكتابته هو مما يثري هذا العلم القيم..
ولا يعقل أن نذم إطلاق أتباع العثمانيين الجدد للاتهامات الجاهزة لكل ناقد للدولة العثمانية في دينه، ثم نرتكب نفس النقيصة فنتهم كل مدافع عن العثمانيين في ولاءه الوطني والقومي..
ولنا مثال في رجل علامة وقامة من القامات التاريخية هو الأستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش أستاذ التاريخ بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الإمام الأوزاعي بلبنان الشقيق.. هذا الرجل قامة وقيمة ألف عشرات الكتب في مختلف فترات ودول التاريخ الإسلامي، وهو مختص في المقام الأول بالتاريخ التركي، وفي كتابه “العثمانيون” هو يدافع عن الدولة العثمانية في مواضع أسمح لنفسي بالاختلاف معه فيها، كمسألة قانون الديشرمة وتجنيد الإنكشارية، أو القضية الأرمنية، أو سياسات سليمان القانوني، أو تقييمه لقيام سليم الأول بغزو دولة المماليك.. وغيرها..
لكنني مع ذلك لا أستطيع إلا أن أعرب عن شديد احترامي هذا الرجل وعلمه وجهده، فهو لا يكتفي بعرض قراءته للحالة التاريخية وإنما هو يقدم أسانيده ويعرضها على القاريء بموضوعية محترمًا عقله وحقه تكوين وجهة النظر الخاصة به دون اتهام لمن يختلفون معه في دينهم أو عقولهم، ويضع جانبا توجهاته السياسية وانحيازاته كيلا يؤذي موضوعيته (وهو ما أكده لي ذات مرة منذ سنوات عندما تشرفت بمحادثته هاتفيا) فهذا رجل اختلف معه في أمور كما أتفق معه في غيرها ، وفي نفس الوقت احترم جهده حتى فيما اختلف معه فيه.. وأقر بفضل كتاباته عليّ .. لا مشكلة في ذلك..
وعلى النقيض نجد رجلا مثل الإخواني علي الصلابي الموضوع عربيًا على قوائم المطلوبين لدعم الإرهاب.. فهو يقحم انتماءه السياسي إقحاما في كتاباته بشكل فج مبتذل، ويتهم هذا وذاك بتهم من نوعية الماسونية أو معاداة الإسلام ولا يتعطف علينا بتقديم أدلة ولا أسانيد بل يلقي في وجوهنا رأيه بطريقة “هذا هو الحق الذي لا ريب فيه فخذه كما هو” والقاريء لكتابه المبتذل “الدولة العثمانية” يدرك ذلك بسهولة شديدة!
يقودنا هذا للسؤال الثاني عن كيفية التمييز بين المهتم بالتاريخ العثماني بحكم الاشتغال بالعلم وذلك الذي يستخدم تخصصه المزعوم وسيلة لخدمة تبعيته لتيار العثمانيين الجدد..
الأمر لا يحتاج لغير مراقبة سلوك هذا الشخص، فبالله عندما يكون هذا المدعي أنه إنما هو رجل علم هو رجل موالي لجماعة الإخوان الإرهابية.. يعيش في كنف النظام الاردوغاني وهو دائم الاتهام لمن يخالفونه الرأي بالجهل وضعف العقل، ويبادرهم بالسب والعداء، ويلمزهم بأنهم يخدمون “سياسات معينة” بكتاباتهم، وهو بالتوازي مع ذلك يبدي صريح الانحياز للنظام التركي بشكل فج يبلغ حد التأييد للسياسات التركية العدوانية بحق بلده الأم والوطن العربي كله.. بحق الله كيف يمكن أن نعامل مثل هذا الشخص باعتباره مجرد رجل علم وأن كتاباته هي مجرد نشاط بحثي تاريخي؟
لا بأس أن يكون لكل منا توجهاته وانحيازاته ولكن كيف تكون ثمة مصداقية لمن يعلن دون حياء انحيازه لعدو وطنه؟ إن من التغابي أن نعامل مثل هؤلاء معاملة “المختلف في الرأي العلمي”..
الحل إذن للتمييز بين رجل العلم والمستتر بالعلم هو أن نضع نموذج الأستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش ونموذج علي الصلابي وأشباهه أمامنا.. فمن كان كالأول فهو من أهل العلم سواء اتفقنا أو اختلفنا معه ..أما من كان كالصلابي أو أولئك المشايعيون للنظام التركي فإن كل حرف يكتبه هو لغرض سياسي وإن أقسم على عكس ذلك…
يمكنني أن أتفهم أن يخدم المشتغل بالتاريخ قضية وطنية كما كان الأستاذ عبد الرحمن الرافعي يفعل بكتاباته في تاريخ الحركة الوطنية خلال فترة الاحتلال البريطاني لمصر، أو كما يفعل من يحرصون على تفنيد أكاذيب من سخروا أقلامهم لخدمة العثماني الجديد، وهو أحد أدوار علم التاريخ أن تعزز في بني وطنك وأمتك اعتزازهم الوطني والقومي-طالما كان ذلك يتم دون مخالفة للضوابط الأخلاقية والعلمية للكتابة التاريخية-ولكن أن تحوّل نشاطك العلمي لمجرد “تلميع” لتاريخ دولة يحاول نظام معادي لبلادك أن يبعث سياساتها لاستخدامها كدعاية لشرعنة سياساته الحالية، فهذا يخرجك من تصنيف المشتغلين بالتاريخ!
دعونا إذا لا ننخدع بالاعيب هؤلاء فإن لهم في الألاعيب باعا وتاريخا طويلا.. ولقد تاجروا بالدين أفلا يتاجرون بالعلم؟
نقلا عن سكاي نيوز عربية