سياسة

مدينة درنة المنكوبة تواجه تهديدًا بيئيًا كبيرًا


لا تزال العائلات في درنة، بعد أسبوع من الفيضانات والسيول التي جرفت وسط المدينة وقذفت به في البحر، تحاول استيعاب حجم الخسائر الإنسانية والمادية الفادحة للكارثة ويعتصرها الحزن على من راحوا من أحبائهم بينما تطاردهم الهواجس بشأن مصير المفقودين المجهول، فيما باتت المدينة مهددة بكارثة بيئية.

وتحول وسط درنة إلى أرض قاحلة وتنتشر الكلاب الضالة بين أكوام الحطام الموحلة التي كانت يوما من الأيام بنايات ومنازل. وتقف بعض المباني الأخرى بالكاد في مشهد غريب مستندة على طوابق أرضية دمرتها المياه تقريبا.

بعد أسبوع من الكارثة، تجثو صابرين على يديها وركبتيها وسط حطام وأنقاض منزل أخيها وهي تحفر بيديها على أمل أن تصل بأي طريقة للعائلة المدفونة تحت الركام وهي تناديهم وتنتحب.

وقالت صابرين وهي تبكي بحرقة “يا الله.. يا الله.. يا ربي… لو نقدر نشيلها.. نشيلها بيدي.. نطلع حتى جثة بس، نقول خلاص اتريحنا عليهم. يا تيم يا تيم، تيم ويزن ولقمان وسلمى وتماضر وحكيم وزوجته يا ربي.. يا ويلتي وينكم؟ يا ربي حتى جثة بس يا ربي رحمتك بينا يا ربي”.

وقبل أسبوع، انهار سدان في المدينة تحت وطأة عاصفة عاتية وأمطار غزيرة مما أطلق سيلا ضخما من المياه صوب وادي نهر موسمي جاف يمر عبر وسط المدينة التي يقطنها نحو 120 ألف نسمة.

وتسببت الكارثة في مقتل الآلاف وفقد الآلاف. وقدم مسؤولون يستخدمون طرقا مختلفة لحساب الأعداد بيانات شديدة التباين بشأن حصيلة الضحايا حتى الآن.

ويقدر عبدالمنعم الغيثي رئيس بلدية درنة أن أكثر من 20 ألفا فقدوا بينما أكدت منظمة الصحة العالمية مقتل 3922، في حين أشارت حصيلة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ‘أوتشا’ إلى أن الفيضانات أسفرت عن 11 ألفا و470 قتيلا و10 آلاف و100 مفقود.

لكن صابرين وسكان آخرين ينتابهم الحزن على آلاف ليسوا في قوائم القتلى المؤكدة. وتتأمل العمة صورة لابن أخيها الصغير على هاتفها المحمول وهو يحمل هرة صغيرة على يديه قبل الكارثة.

وقالت وهي لا تتماسك نفسها من البكاء “المكان اللي كانوا يلعبوا فيه.. كانوا قاعدين هنا.. كانوا يطلعوا ويخشوا ويجوني ونجيهم.. معاش فيه شي باقي. السيل خد كل حاجة، كل شي، خذهم وخذ لعبهم، خذ كتبهم.. خذ أبوهم، خذ أمهم”، مضيفة وسط البكاء الحار “مين نحاسبه، مين المسؤول مين اللي نقوله أنت المسؤول؟”

ولم تفقد السلطات بعد الأمل في العثور على أحياء. وقال عثمان عبدالجليل وزير الصحة في حكومة شرق ليبيا إن آمال العثور على ناجين تتضاءل بشدة لكنه أكد أن جهود البحث ستتواصل للعثور على أي ناجين.

وأضاف أن الجهود تتركز حاليا على إنقاد أي ناج وانتشال الجثث من تحت الحطام ومن البحر أيضا بمشاركة العديد من الغطاسين وفرق الإنقاذ المتخصصة من دول أخرى.

وكان مدير مركز البيضاء الطبي رئيس لجنة الطوارئ الصحية بالمدينة الدكتور عبدالرحيم مازق قد حذر من كارثة بيئية أشد وطأة في شرق ليبيا، جراء تحلل الجثث الغير منتشلة والفيروسات المحتملة في المياه الراكدة بعد انحسار الفيضانات التي اجتاحت المنطقة

أهالي درنة يعتصرهم الحزن على فراق ذويهم
أهالي درنة يعتصرهم الحزن على فراق ذويهم

وبالنسبة لأحمد عاشور (62 عاما) فإن تلاشي الأمل في العثور على ناجين يعني أن عليه أن يتقبل واقع فقده لابنته وتركها لرضيعتها البالغة من العمر ثلاثة أشهر ليربيها.

ويقول “فقدت ابنتي. أمها مقتنعة أنها لا تزال على قيد الحياة. وأنا سلمت أنها توفيت… تركت لنا رضيعة تبلغ من العمر ثلاثة أشهر”. وفقد عاشور أيضا أكبر شقيقاته وابنتها. وقال “عندما عرفنا ما حدث للآخرين يمكننا أن نتقبل كل ما جرى لنا”.

بدوره جلس الأب المكلوم أحمد كسار (69 عاما) أمام منزله المدمر وفي يده سيجارة تكاد تحرق اصبعيه ودموعه تنهمر في صمت على أبنائه الأربعة الذين فقدهم، وهم ابنتان وابنان، غرقوا داخل منزلهم الذي غمرته مياه الفيضانات دون أن يتمكنوا من الهرب قبل أن ترتفع المياه للسقف.

وظل يردد “كارثة.. كارثة. صرت وحدي الآن”. ونجا أحمد لأنه كان في مصر سعيا لعلاج طبي قبل أن تضرب العاصفة درنة مباشرة.

وقال “لا يحزنني موتهم فحسب. يحزنني أنني غادرت ولم أتمكن من القيام بدوري كوالد لهم، لأضمن مستقبل أولادي”.

وسدت سيارات الإسعاف والشاحنات، التي تحمل الغذاء والماء والحفاضات والحشايا وغيرها من الإمدادات، الطرق المؤدية إلى درنة اليوم الاثنين.

ورش رجال يرتدون ملابس بيضاء واقية من المواد الخطرة مطهرات ومواد للتعقيم من مضخات مثبته على شاحنات وأخرى محمولة على الظهر حيث تأمل السلطات أن يساهم ذلك في منع انتشار الأمراض.

وقال أكبر القطاني مدير إدارة البيئة في بنغازي إنهم يعقمون الشوارع والمساجد والملاجئ التي يقبع فيها المشردون من الكارثة وثلاجات الموتى والشوارع المنكوبة والجثث.

وقالت لجنة الإنقاذ الدولية، وهي منظمة خيرية “أزمة الفيضانات تركت آلاف الأشخاص في منطقة درنة دون مياه شرب نظيفة وآمنة، مما يشكل تهديدا وشيكا على صحتهم وسلامتهم”.

وأضافت “المياه الملوثة يمكن أن تؤدي إلى انتشار الأمراض، مما يعرض الفئات الضعيفة من السكان وخاصة النساء والأطفال لخطر متزايد”.

وأرسلت دول غربية ودول من المنطقة فرق إنقاذ ومستشفيات متنقلة. ولقي خمسة من عمال الإنقاذ اليونانيين، بينهم ثلاثة من أفراد القوات المسلحة، مصرعهم في حادث سيارة أمس الأحد.

وقال الهلال الأحمر الليبي اليوم الاثنين إن إخلاء مدينة درنة يبقى “خياراً وارداً” ويعتمد على الوضع الصحي فيها، بعد إعلان حالة الطوارئ لمدة عام في المناطق المتضررة جراء السيول والفيضانات تحسباً لمنع تفشي أي مرض.
وأفاد رئيس جمعية الهلال الأحمر عبدالسلام الحاج بأن فرق الجمعية تواجه صعوبات من أبرزها نقص الامكانيات اللوجستية وصعوبة الوصول لبعض المناطق المتضررة.
وأضاف أن الفرق تعمل على توزيع المعونات للمتضررين وإنقاذ المصابين والمساعدة في انتشال الجثامين.
وتعرقلت جهود التعافي بسبب الفوضى في الدولة، التي تحولت إلى دولة فاشلة منذ الانتفاضة التي أطاحت بالزعيم الليبي الراحل بمعمر القذافي في عام 2011 بدعم من حلف شمال الأطلسي.

وتقع درنة في الشرق خارج سيطرة الحكومة المُعترف بها دوليا المتمركزة في الغرب، وحتى عام 2019 تعاقبت على السيطرة عليها سلسلة من الجماعات الإسلامية المتشددة من بينها جماعات تابعة لتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية.

ويقول سكان إن تهديد السدين المنهارين للمدينة كان معروفا إلى حد كبير مع توقف مشروعات لإصلاحهما لأكثر من عشر سنوات. كما يتهمون السلطات بالفشل في إجلاء السكان في الوقت المناسب.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى