لبنان في ملحمة العزوف

علي الصراف


تكاثرت أسباب العزوف عن الانتخابات في لبنان، إلا أن هذا العزوف يمكن أن يتحول إلى أول المعترك من أجل التغيير.

هذا المعترك هو الملحمة التي إذا انخرط بها اللبنانيون، لعلهم أنقذوا بلادهم من الانهيار التام، وجعلوا النظام الذي قادهم إلى الجحيم هو وحده الذي يبقى فيه.

لقد عرض كل واحد من قادة الطائفة السُّنية البارزين أسبابا مختلفة للعزوف عن المشاركة في الانتخابات النيابية المزمعة في 15 مايو المقبل، إلا أن انعدام الثقة بإمكانية التغيير والخلاص من الأزمة، ظل هو الرابط الضمني بين الجميع.

وبصرف النظر عن النتائج والمرشحين، الفائزين المحتملين منهم والخاسرين، فإن المشاركة في الانتخابات هي، بالأحرى، تصويتٌ لصالح بقاء النظام ولمنحه الشرعية التي لا يستحقها، ولتوفير القدرة له لكي يكرر الشيء نفسه، ويُبقي السلطة لأهل الجريمة وتجار المتفجرات والمخدرات ولأهل الفساد. هذا النظام نفسه..
1ـ الذي طالب المتظاهرون منذ أكتوبر 2019 بإسقاطه، ولم يسقط.
2ـ الذي قاد البلاد إلى أسوأ أزمة اقتصادية منذ نحو قرن ونصف قرن.
3ـ الذي حوَّل لبنان إلى ثاني أتعس بلد في العالم، بحسب تقرير السعادة الدولي.
4ـ الذي أفلت فيه مرتكبو جرائم القتل والاغتيالات من العقاب.
5ـ الذي فشل في محاسبة الذين تسببوا في انفجار مرفأ بيروت.
6ـ الذي أفلست مصارفه، حتى لم تعد تملك ما تسدد به مدخرات المودعين.
7ـ الذي عاد إلى عصور الظلام من قبل أن تنقطع الكهرباء.
8ـ الذي يبيت أكثر من نصف أطفاله على الطوى.
9ـ الذي يعشعش فيه النفاق السياسي والاحتيال والتبريرات وإلقاء اللوم على الآخرين.
10ـ الذي توجد فيه دولة حزب مسلح أقوى من الدولة.
11ـ الذي يريد مساعدات دولية، لكي ينهبها الذين نهبوا كل ما كان قبلها.
12ـ الذي إذا عثر على قاضٍ حُر، طورد وتعرض للتهديد.
13ـ الذي تتفاخر إيران بأنها تُخضعه لإرادتها وتحتل قراره السياسي.
14ـ الذي يقوم على أساس محاصصات لتقاسم النفوذ بين “الفاعلين”.
15ـ الذي ستعود مليشيات الولي الفقيه لتفوز بـ”الثلث المعطل” أو حتى الأغلبية فيه، لأن نظامه الانتخابي مفصَّل لها على المقاس.

الذهاب إلى الانتخابات النيابية، إنما يعني العودة إلى كل هذا لتكراره.

المتحمسون للانتخابات، كما تراهم، هم الفائزون مسبقا. وهذه وحدها علامة تكفي للقول إن الذهاب إلى الانتخابات، بصرف النظر عمن تصّوت له، هو بحد ذاته إعادة انتخاب للنظام الذي يتقاسمون حصصهم فيه.

لقد كان من الأولى، ليس بقادة السُّنة وحدهم العزوف عن الترشيح، بل بكل لبنان أن يقاطع الانتخابات، لكي يُسقط عن هذا النظام شرعيته، ويبقيه غارقا فيما أوجده القائمون عليه لأنفسهم، بينما لم يعرف الملايين من أبناء لبنان إلا الحرمان والقهر والظلم.

لقد كان من الأولى أن يُصغي إلى أنين المحرومين، وأن يُصغي إلى مطالب الذين قالوا “كلن، يعني كلن”، أي أن يسقط النظام نفسه، لا أن تتاح الفرصة للذين أجرموا وأفسدوا أن تُجدد لهم ولنظامهم الشرعية.

لقد كان من الأولى للطائفية السُّنية نفسها أن تعلن مقاطعتها الانتخابات، وأن تقاطع النظام، فلا تقدم له أحدا من رموزها، لأن ذلك هو السبيل الوحيد الباقي لبناء نظام جديد، لا دولة فيه أقوى من الدولة، ولا أحد فيه يملك “ثلثا معطلا”، ولا طائفة تحكم أخرى، ولا حزب يصادر قراره السيادي لحساب دولة أخرى، أو يتصرف على أنه فوق القانون، ولا تتوزع المناصب فيه على محاصصات حزبية أو طائفية.

المقاطعة الشاملة ربما كانت هي السبيل الوحيد الذي يمكنه أن يعيد ملحمة النقاش حول إعادة بناء النظام السياسي إلى موضعها المفقود.

بناء دولة مدنية حديثة في لبنان، على أساس المواطنة المجردة، ليس من عجائب الدنيا السبع. وحتى لو بدا ذلك صعبا، فإن الانهيار الراهن، كافٍ بمفرده، للقول إن النظام القائم لم يعد صالحا للحياة. وأي محاولة لتجديده، هي بالأحرى محاولة لتجديد عجزه وفشله، ومن ثم لتجديد مآسيه ومظالمه.

العزوف هو أول ملحمة التغيير، وهو واحد من أولى علامات القول إن هناك في هذا البلد من يملك إرادة الخوض فيها. ولو أن هذا العزوف تحول إلى تظاهرة عامة لهذه الطائفة التي تعد الركن الثالث من أركان البلاد، فإنها بمقاطعتها الانتخابات ستكون قد أطلقت حكمها على النظام وعلى الذين يهيمنون عليه.

وماذا تفعل للفشل الشامل، وللإفلاس الشامل، غير أن تجعله يدرك الهاوية، وأن يغرق في الحفرة التي حفرها للناس؟

ما من لبناني بات بلا كهرباء، أو نام أطفاله بلا طعام، أو فقد وظيفته، أو ضاعت مدخراته، إلا ويعرف أن أهل الحفرة هم أولى بها، لا أن يمنح نظامهم صوتا لكي يفوز به، مرة أخرى، عليه.

Exit mobile version