سياسة

كينيدي – بايدن.. قيادة الأُمّة وقت الطوارئ


هل يتوَجب على الرئيس الأمريكي المنتخب جوزيف بايدن أن يعِيد قراءة أوراق الرئيس الأمريكي المغدور جون كينيدي الرئيس الـ٣٥ في تاريخ بلاده؟

في الأسابيع الأخيرة، ذهبَتْ وسائل الإعلام الأمريكيّة في عقد المقاربات بين الأجواء السائدة في زمن تنصيب بايدن، مع تلك التي عرفَتْها الولايات المتّحدة الأمريكيّة عام 1960 حين تَرَشَّح كينيدي ومن ثم وصوله إلى الرئاسة.

كانت أمريكا في ذلك الوقت محتقِنة إلى أبعد حَدّ ومَدّ من جَرّاء حركة الحقوق المدنيّة المطالِبة بتصحيح أوضاع الأمريكيّين من أصول أفريقية، بقيادة القسّ مارتن لوثر كينج، والذي ستطوله يدُ الاغتيال لاحقًا بعد أن يتمّ التآمر على كينيدي في واحدة من أعقد عمليّات الموت في الداخل الأمريكيّ، والتي لم يُحَلّ سِرُّها حتّى الآن، وإن كانت كافّة الأدلّة والبراهين والقرائن تُؤكّد أنّ نائبة ليند بنز جونسون بالتآمر مع المجمع الصناعيّ العسكريّ الأمريكيّ؛ الفاعل.

وعلى عتبات البيت الأبيض، يجد الرئيسُ بايدن أمريكا دولةً منقسمة ومُتشظّية، فيها من الأمريكيين الأفارقة من يخرجون إلى الطرقات سِلْمًا تارة، وعنفًا تارةً أخرى، يصيحون: “حياة السود مُهِمّة”، بينما شرائح كبيرة أخرى من الأمريكيّين تنحو ناحية اليمين المتشَدّد الذي ما يلبث أن يضحى متطرِّفًا، بل ومُسلّحًا، ويقول الراوي إنّ هؤلاء سوف يتقاطرون على واشنطن بدءًا من السادس عشر من يناير/كانون الثاني الجاري، أي اليوم الذي تظهر فيه هذه الكلمات للنور، ما يُرعِب قُوّات الشرطة الأمريكيّة. ومن جانب آخر، تبدو الجماعات اليساريّة الراديكاليّة لهم بالمرصاد، ما يجعل المشهد الأمريكيّ في عهد بايدن أكثر تعقيدًا مِمّا كان زمن كينيدي.

على أن ما يخيف قولاً وفعلاً، هو أنّ حركة الحقوق المدنيّة في ستينيّات القرن الماضي، كانت لها قيادة، ومانيفستو، الأمر الذي مَهَّدَ كثيرًا للتعاطي معها بعقلانيّة وتخفيف حِدّة الصدام في أوقات الاحتقان، بل إن لوثر كينج في مذكّراته يصف المشهد بأنّه عندما أدرك كينيدي قُوّة الحركة لم يقف في صفوف المتفرّجين، بل كانت لديه الرؤية والحكمة اللازمتان للإحاطة بالمشكلة من كلّ جوانبها، وكان لديه من الشجاعة ما هو كافٍ لدعمها، وقد تَطَوّر سياسيًّا حتّى يوم اغتياله، فهل ما يجري على صعيد الولايات المُتّحدة اليوم من نشوء وارتقاء جماعات اليمين المُتطرِّف القوميّ الشوفينيّ المتطرّف تشمله قيادة واحدة يمكن احتواؤها، أم أنّ الأُمّة الأمريكيّة أمام فيروس شائه أكثر توحُّشًا في الحال وخطرًا في الاستقبال من كوفيد-19 المستجد؟

السؤال المُتقدِّم هو الاستحقاق الحقيقيّ الذي يجابه الرئيس بايدن من قَبْل دخوله البيت الأبيض، وقد وعد الرجل في خطاب الفوز بأنّه سيعمل على مداواة الجراح في أمريكا وإنهاء حالة الشّيْطنة في البلاد، وهنا يتساءل المراقبون: هل كانت تصريحاتُ بايدن عن حتميّة إقالة أو عَزْل ترامب قبل بضعة أيّام من نهاية ولايته، تُعَبّر عن رؤية حصيفة لمن يريد أن يُوَفِّق لا أن يُفَرِّق، ومن يتطَلّع لأن يشرح لا أن يجرح؟

في مارس/آذار من عام 1961 وبعد بضعة أسابيع من انتخابه، حَقَّقَ كينيدي أَوّل إنجاز لإدارته الجديدة، وهو تأسيس فِرَق السلام، وهو برنامج تطوّعيّ لإرسال الشباب الأمريكيّ إلى الخارج لمساعدة بلدان العالم الثالث خصوصًا، وبذلك استفاد الرئيسُ الجديد من الحِسّ المثاليّ الذي كان يتمَتّع به الجيلُ الأمريكيّ الشابّ في ذلك الوقت.

جَسَّدت فرقُ السلام أفضلَ عنصر وأكثره إلهامًا في شخصيّة الرئيس الجديد في واشنطن، بحيث غدا البيت الأبيض بسرعة من خلال أعضائه الجُدد الأفضل والألمع.

والشاهد أنّ أزمة الداخل الأمريكيّ لا تُوَفّر الكثيرَ من الرفاهية للرئيس بايدن ليتطلّعَ إلى الخارج، وإن كان مأزومًا إلى أبعد حَدّ ومَدّ؛ فقد ترك ترامب علاقات أمريكا الخارجيّة في وضع لا تُحسَد عليه مع الأعداء والأصدقاء، فقد أغضب الحلفاءَ على الجانب الآخر من الأطلسيّ في أوروبا، أمّا الصين فقد جاهر بعدائه لها، فيما الروس يمارسون الانتقام من أمريكا جهرًا وسِرًّا، ولا يزال القيصرُ الروسيّ فلاديمير بوتين حانقًا كلَّ الحنقِ على العَمّ سام الذي ارتكب أكبر فعلةٍ شنعاءَ في القرن العشرين، أي تفكيك الاتّحاد السوفيتيّ وإذلال أحفاد القياصرة بصورة كان لا بُدّ لها من رَدّات أفعال طال الزمانُ أو قصر.

هل سيُقَدَّر لبايدن أن يقوم على تشكيل فرق سلام تجوب الداخل الأمريكيّ لتهدئة الخواطر، وتُطَيِّب الجراح التي خَلَّفتْها المعركة الرئاسيّة التي تركت وستترك ندوبًا واضحة على جَسَد رئاستِه الأولى، والتي يقطع الجميعُ بأنّها ستكون يتيمة من دون الأمل في ولاية ثانية؟

قد يبدو بايدن صاحب الثمانية والسبعين عامًا رجلاً طيّبَ القلب، لكن من الواضح أن جنوح بعض كبار الديمقراطيّين وفي المقدمة منهم نانسي بيلوسي، زعيمة الأغلبيّة في مجلس النواب، يمكن أن يقود أمريكا إلى دائرة الانتقام، ما يعني صعوبة الخلاص من شهوة الثأر السياسيّ، والذي حتمًا سيُوَلِّد ضغائن ستنتهي بتمزُّق الاتّحاد الفيدراليّ الأمريكيّ، السيناريو الذي استشرفه كثيرون من الراسخين في العلم الأمريكي تاريخًا وجغرافيا، سيسيولوجيا وديموغرافية.

كان كينيدي يرى أنّ مهمّة الرئيس الأمريكي تتلخّص في العمل على تحديد أولويّات العمل القوميّ، وأن الرئاسة يجب أن تكون مركز الزعامة الأخلاقيّة، وفي زمنه اعتبر حكماء أمريكا من السياسيّين أنّ المؤسّسة الرئاسيّة تهدف إلى توفير الوساطة المتوازنة، لا سيّما في حال قيادة الأُمّة في أوقات الخطر، ما يعني التخَلّي عن الانتماء الحزبيّ الأيديولوجيّ الضّيّق، والخروج إلى رحابة الأمة الأمريكيّة بكلّ مكوّناتها، وسواء كانت بوتقة انصهار، أو لوحة فسيفساء، فإنّ المهمَّ هو الحفاظ على وحدتها في هذه اللحظات الحاسمة والمثيرة للجدل والخطر على حَدٍّ سواء.

كتب كينيدي قبل وفاته بأسابيع يقول: “لا تقتصر ذاكرة الأُمّة على من يتَوَلَّوْن زمام السلطة حاليًّا، ولكنّها تمتَدّ إلى كلّ شخصيّة عظيمة وكلّ شخصيّة خالدة الذّكْر”.

قطعًا ينبغي على بايدن أن يقرأ هذه الكلمات، وهو يُعِدّ لخطاب التنصيب، بل أن يراجع استطلاعًا للرأي أجرته صحيفة النيويورك تايمز الأمريكيّة وشبكة “سي بي إس” الإخباريّة العام 1996 حول الرئيس الذي يُفَضِّل الأمريكيّون عودتَه إلى الحكم لو امتلك الناخبون آلة الزمن، فقد كانت المفاجأة أنّهم يريدون عودة كينيدي، وليس إبراهام لينكولن أو رونالد ريجان ولا فرانكلين روزفلت، هذا على الرغم من أنّ الرجلَ لم يُكمِلْ ولايته الأولى، وقد اغتيل بعد سنتين وعشرة أشهر أو 1037 يومًا على وجه الدّقّة، ما يجعل السؤال الواجب الوجود.. لماذا؟

باختصارٍ غير مُخِلّ، لأنّه استنقذ روح أمريكا المنقسِمة في الداخل، وجَنَّبَها هَوْل النزاع النوويّ مع السوفييت في الخارج.

الخلاصة.. الذين يقرؤون لا ينهزمون، والمتكاسلون عن القراءة يعيدون أخطاء الماضي.. فانظُرْ ماذا ترى؟

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى