سياسة

في زمن الشعبوية.. حضر السياسيون وغاب رجال الدولة

د. نصر محمد عارف


كان من أهم إفرازات الأزمة الأوكرانية أنها كشفت حقيقة القيادات والنخب السياسية الحاكمة في معظم الدول الغربية ومن سار في ركابها.

فقد ظهر جليًّا أن الحالة الشعبوية، التي ظهرت وتعمّقت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتمكين العوام من البشر -الذين لا يمتلكون المعرفة الأساسية بمجريات الأمور- من أن يكونوا فاعلين سياسيين مؤثرين في مستقبل الأحزاب والقيادات الحاكمة في الدول الديمقراطية.

هذه الحالة الشعبوية، التي تجتاح العالم، مكّنت كَهَنة عصر ما بعد الحقيقة من السياسيين والإعلاميين ورواد الدعاية السياسية من أن يصنعوا عوالم من الحقائق المتوهَّمة، التي تمزج ما بين العواطف والأمنيّات، مع بعض المعلومات الواقعية لتصنع الحقيقة، التي تحقق المصالح، وليست الحقيقة التي تعبر بصدق عن الواقع.

لقد ظهر جليًّا أن معظم دول العالم الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية تفتقد في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة إلى رجال الدولة، وتمتلئ بالسياسيين أو رجال السياسة، والفارق بينهما كبير جدا.

وهذه الحالة للأسف الشديد جديدة على الدول الديمقراطية، وحين نقول “رجال دولة” لا نقصد الجنس وإنما نقصد الدور والوظيفة، فرئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر كانت من أهم رجال الدولة، وكذلك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

كان أفلاطون أول من ميز بين “رجل الدولة” و”السفسطائي” أو “السياسي” في المعنى المعاصر، وكان جوهر التمييز بينهما هو أن رجل الدولة يتصف بالحكمة والشجاعة والنزاهة الشخصية والتعلق بالأهداف العليا للدولة والعمل على تحقيقها والسهر على مصالح المواطنين والحفاظ على دولته والحرص على رفعتها وعلو شأنها، أما السفسطائي فغايته الانتصار لحُجته والتلاعب باللغة لخداع الجماهير لتحقيق مصالح خاصة.

ومنذ ذلك الحين ومفهوم “رجل الدولة” من المفاهيم الراسخة في علم السياسة، حينما يُستخدم ترتسم في الذهن صورة معينة، تحددها الثقافة والهوية والتاريخ، فرجل السياسة هو شخص ماهر في تحريك الجماهير، وحشدهم خلف حزبه، أو قيادته، وهو يجيد النقد وإظهار العيوب، ويملك مهارات عالية في الخطابة والبلاغة والتهييج، وفي جوهره يعمل لتحقيق مصالح حزبه، أو مصالحه الشخصية.

رجل السياسة يكون بارعا في المناورة، والتفاوض واللعب بـ”البيضة والحجر” -كما يقول المثل الشعبي- فهو مناور عظيم، ولكن لا تحد مناوراته إلا مصالحه، أو مصالح حزبه، لذلك يتحالف مع المتناقضين حسب مصالحه، ولا يكترث كثيرًا إلا بالنجاحات المؤقتة، ولا تعنيه الخطط طويلة الأمد، فكل هدفه تحقيق النجاح الذي يحقق المصالح، التي يسعي لتحقيقها، حتى وإنْ قاد ذلك إلى مشكلات مستقبلية هائلة لدولته وشعبه.

أما رجل الدولة فيختلف كثيرًا، بل جذريًّا، عن رجل السياسة.

رجل الدولة هو رجل السياسة، الذي أتقن فنون السياسة، ووظّفها لخدمة النفع والصالح العام، هو من يضع نصب عينيه مصالح دولته، وأمنها القومي، ويعمل لشعبها، كل شعبها.

رجل الدول يؤمن بالدولة والوطن والشعب، كل الشعب، يسخّر كل قدراته وإمكانياته لحماية مصالح دولته، والحفاظ على أمنها وتقدمها وازدهارها.

رجل الدولة هو رجل السياسة مضافًا إليه كل القيم العليا للدولة، وكل المثل العظمى للسياسة، وكل المعايير المعتبرة للقانون.

الأمم تنهض برجال الدولة، والأحزاب تنجح برجال السياسة، والحكومات تحتاج إلى الاثنين معًا، خصوصاً في الدول التي تتبع نظام المنافسة الحزبية، والتعددية الديمقراطية، ولكن الحاجة أكثر إلى الاستدامة السياسية والتنموية تتوقف على رجال الدولة.

المشهد المحيط بالأزمة الأوكرانية يُظهر بجلاء أننا أمام قيادات سياسية معظمهم من “رجال السياسة”، والقليل منهم “رجال دولة”، لذلك حين خرج السياسي المخضرم، الذي أكمل عامه التاسع والتسعين هذا الأسبوع، هنري كيسنجر، يقدم رؤيته لهذه الأزمة، وكيف يمكن تجاوزها، انفجر في وجهه صراخ رجال السياسة من كل حدب وصوب يتهمونه بعدم الإحاطة بالموضوع، وعدم الإلمام بالمعلومات، وكالوا له الاتهامات، على الرغم من أنه قدم رؤية سياسية عميقة وواقعية للخروج من هذه الأزمة، التي توشك أن تُدخل العالم في متاهات لا يعلم أحد مداها أو نهايتها.

ما يحتاج إليه العالم الغربي، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، هو أن تتم دراسة استراتيجية جون كينيدي في التعامل مع أزمة الصواريخ السوفييتية في خليج الخنازير في كوبا عام 1961، وأن يتم التخلي عن التفكير الغرائزي، الذي يُعلي شهوة الانتقام على المصالح الوطنية والإنسانية العامة، خصوصا ما يتعلق بالغذاء، ويكفي أن نعرف أن الولايات المتحدة مع هذه الأزمة، ولأول مرة في تاريخها، تستورد حليب الأطفال، وهي الدولة الزراعية الأولى في العالم، والتي تنتج جميع أنواع الغذاء بما يكفي حاجة شعبها، ويفيض للتصدير.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى