فوز ماكرون ومخاطر صعود اليمين المتطرف

خورشيد دلي


أثار فوز إيمانويل ماكرون بولاية رئاسية ثانية مزيدا من الارتياح في فرنسا والعالم، لا سيما في دول أوروبا، التي كانت تخشى فوز زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان.

ومع أن “لوبان” خسرت في الانتخابات، وأقرت بهزيمتها أمام “ماكرون”، فإنها رفعت من رصيدها بنحو عشرة بالمائة من الأصوات في الشارع الفرنسي، مقارنة بالانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2017، ولعل هذا ما دفع بها عقب إعلان النتائج إلى القول إنها “تشعر بالنصر”، والتوعد بمواصلة “الكفاح”، والدعوة إلى الاستعداد للجولة المقبلة من الانتخابات، في إشارة إلى الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقرر إجراؤها في يونيو/حزيران المقبل.

في الواقع، ينبغي الاعتراف بأن “ماكرون”، الذي قاد القطار الفرنسي خلال ولايته الأولى وسط صعوبات بالغة، أجاد لعبة التحالفات، واستفاد جيدا من كره الفرنسيين لليمين المتطرف للبقاء في الإليزيه من جديد، إذ إن نسبة كبيرة من الفرنسيين صوّتوا لماكرون، لا لقناعتهم ببرنامجه السياسي وإنجازاته خلال الولاية الأولى، بل لمنع وصول لوبان إلى الإليزيه، إذ كان وصولها بمثابة أكبر اختراق في تاريخ الجمهورية الفرنسية للأسس التي قامت عليها الهوية الفرنسية، لكن خسارة لوبان الانتخابات الرئاسية لا تعني نهاية المُنازلة السياسية بين مختلف القوى الفرنسية واليمين المتطرف، الذي يشهد نفوذه مزيدا من الصعود، بعد أن كان منبوذا في فرنسا طوال العقود الماضية، وهذا الصعود لليمين المتطرف له أسباب كثيرة، في المقدمة منها، استغلال موجات الهجرة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا إلى فرنسا، وأوروبا عموما، وانتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب، حيث استفاد اليمين من كل ذلك في طرح أيديولوجيا متطرفة، تقوم على كره الأجانب، وتمجيد القوموية الضيقة، وتصريف كل ذلك في صناديق الانتخاب بغية الوصول إلى السلطة، ولعل ما يجري في فرنسا بزعامة لوبان، ومن قبل والدها، خير دليل على ذلك.

رغم فوز ماكرون وخسارة لوبان، فإن صعود اليمين المتطرف على هذا النحو يشكل إنذارا لباريس، وغيرها من العواصم الأوروبية، خاصة إذا نجحت لوبان في الانتخابات البرلمانية المقبلة، إذ من شأن فوزها في هذه الانتخابات دفع المشهد الفرنسي إلى واقع جديد، ولن يكون أمام الجميع من خيارات سوى الدخول معها في حكومة ائتلافية، وهو ما يعني دفع فرنسا نحو مزيد من التطرف، واتخاذ خطوات تصعيدية في ملفات الهجرة، وإطلاق العنان للإسلاموفوبيا وكره الأجانب، بل وفتح ملفات مصيرية للاتحاد الأوروبي، على رأسها ملف انسحاب فرنسا من الاتحاد، وإعادة النظر في العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة وحلف الأطلسي، ما يعني ترسيخ الانقسام الفرنسي إزاء الأزمة الأوكرانية، لا سيما في ظل اتهامات للوبان بموالاة موقف روسيا في الصراع الجاري بينها والغرب على أوكرانيا، وهو ما سيؤثر على استقرار فرنسا السياسي، على شكل انقسامات تهدد الاستقرار الذي عمل عليه ماكرون طوال ولايته الأولى.

دون شك، صعود اليمين المتطرف في فرنسا على هذا النحو، يدفع المراقبين إلى الاعتقاد بأن ماكرون في ولايته الثانية ينبغي أن يكون مختلفا عن ولايته الأولى، إذ لم يعد يكفي الحديث عن أهمية دور فرنسا في قيادة القطار الأوروبي، أو الحفاظ على الاستقرار الداخلي، أو الانشعال بمواجهة وباء كورونا، بل يتطلب الأمر سياسة مختلفة مع الداخل، والانتهاء من الصورة النمطية التي تقول إن ماكرون يمثل الليبرالية وطبقة الأغنياء، ولعله يدرك جيدا هنا أهمية اتباع سياسات اجتماعية واقتصادية جديدة تحد من الاحتقان الشعبي، وتظاهرات أصحاب السترات الصفر، والانفتاح على القوى اليسارية والديمقراطية، التي تشكل هوية فرنسا تاريخيا، وبقدر هذه المهام الملحة أمام ماكرون في ولايته الثانية، فإن العواصم الأوروبية تعيش حالة من التأهب خشية صعود اليمين المتطرف في فرنسا.

فهل سيتبع ماكرون سياسة جديدة من خلال خطوات عملية تحد من هذا الصعود؟

إنه التحدي الذي ينتظره في ولايته الثانية.

Exit mobile version