يزدهر مثل هذا الخطاب الإنقاذي، خصوصاً بربطه الوثيق بين التحرر الاقتصادي والسياسي من الهيمنة الغربية المفترضة بين جمهور ما يسمى بمحور المقاومة في دول العراق وسورية وإيران ولبنان، لكنه يمتد إلى دول أخرى في المنطقة حتى من دون حضور هذا البعد الأيديولوجي فيه، من خلال تقديم كامل المبادرة الصينية على أنها فرصة اقتصادية ثمينة ونادرة ينبغي عدم تضييعها.

“طريق الحرير” واسمها الكامل، مبادرة الحزام والطريق، هي مشروع بنى تحتية عالمي استراتيجي ضخم تبنته رسمياً الحكومة الصينية في عام 2013 ويهدف إلى ربط آسيا وأفريقيا وأوروبا برياً وبحرياً من أجل تسهيل نقل البضائع والخدمات والأشخاص، وبالتالي تحفيز التجارة والنمو الاقتصادي في البلدان التي يمر بها الطريق وتعزيز إمكانات التكامل المالي والاقتصادي بينها. يُترجم هذا عملياً باستثمار هائل في بناء وسائل المواصلات بين وعبر هذه القارات الثلاث كالمطارات والموانئ والقطارات وسكك الحديد والطرق ومحطات توليد الطاقة ومنظومات الاتصال الإلكترونية وأنابيب نقل الطاقة كالنفط والغاز. وطبقاً لمصادر صينية، وقَعَّ 140 بلداً مذكرات تفاهم مع الصين للدخول في هذه المبادرة، لكن الواضح أن هناك أكثر من 60 بلداً فيها خطط ومشاريع مرتبطة بهذه المبادرة. لا تُعد مذكرات التفاهم نفسها ملزمة، إذ هي تستخدم لإظهار الاهتمام بشيء ما، ولا تصبح ملزمة إلى ان تتحول إلى اتفاقيات (وهو ما كان حال العراق الذي وقع في عهدي حكومتي حيدر العبادي وعادل عبد المهدي نحو 25 مذكرة تفاهم مع الصين لم تتحول إلى اتفاقيات).

تقوم الصين بتمويل مشاريع طريق الحرير من خلال أربعة مصارف رئيسية مملوكة للدولة، تقدم قروضاً للدول المشاركة في المبادرة من أجل إقامة مشاريع البنية التحتية المتفق عليها، وكثير منها تتولى تنفيذها شركاتٌ صينية. لا شك أن “مبادرة الحزام والطريق” مشروع هائل في طموحه وفي الآفاق الاقتصادية الواعدة التي يمكن أن يفتحها، خصوصاً في مساعدة الدول النامية على النهوض الاقتصادي. بعض الأمثلة الشهيرة للمبادرة التي تبدو ناجحة هي ما يسمى بـ”الممر الاقتصادي” بين الصين وباكستان، وهي مجموعة مشاريع بنية تحتية كبيرة في باكستان، تُقدر قيمتها الأصلية بحدود 47 مليار دولار قابلة للارتفاع لأنها لم تكتمل كلها بعد. أحد هذه المشاريع المكتملة هو ميناء غاودر المطل على بحر العرب. رُبط هذا الميناء الواقع في ولاية بلوشستان جنوب باكستان، بطرق برية حديثة توصل البضائع الصينية إليه من الصين كي تُصدر إلى أفريقيا. يساهم هذا الميناء، فضلاً عن مشاريع أخرى، كالخط السريع الحديث الرابط بين مدينتي لاهور وكراتشي بطول 1100 كيلومتر وتأسيس مناطق اقتصادية حرة في باكستان، في تنشيط التجارة وتشغيل الايدي العاملة الباكستانية.

مع ذلك، ثمة انتقادات كثيرة، بعضها جدي، توجه للمبادرة الصينية. مثلاً، تفتقد مشاريع المبادرة إلى الشفافية المعتادة في المشاريع الغربية الشبيهة، إذ تحجب الحكومة الصينية الكثير من المعلومات المتعلقة بالتفاصيل المالية والإجرائية والفنية بهذه المشاريع. فلحد الآن، لا تُعرف على نحو دقيق القيمة الكلية للمبادرة، التي تعتقد بعض المصادر الغربية أنها تصل إلى أكثر من 1.25 ترليون دولار. ثم هناك اعتراضات محلية في دول عديدة على سلوك الشركات الصينية التي، بدلاً من استخدام العمالة المحلية، تفضل جلب عمال صينيين وهو ما أدى إلى احتجاجات في فيتنام وسريلانكا وغضب الرأي العام في لاوس وتركمانستان. لكن الأخطر في المبادرة الصينية هو ما يطلق عليه مصيدة الديون التي تُبالغ مصادر أميركية وغربية في تفسيرها إذ تعتبرها سياسة صينية متعمدة، من دون أدلة رصينة كافية، لإفقار الدول النامية وربطها بالصين سياسياً واقتصادياً.

“دبلوماسية مصيدة الديون،” وهي التسمية التي يطلقها بعض الناقدين الغربيين، وعلى الأخص الأميركيين، على النتيجة المنطقية للمبادرة الصينية، تشير إلى عجز الدول الفقيرة التي تستدين من الصين عن تسديد ديونها للصين، وبالتالي تفقد هذه الدول، عند عجزها عن سداد الديون الصينية وفوائدها، سيادتها على موارد في بلدها على نحو لا يختلف عن الهيمنة الاستعمارية الغربية على الدول الفقيرة في القرن التاسع عشر. المثال الأشهر بهذا الصدد هو ميناء همبانتوتا السريلانكي الذي بدأت سريلانكا في عام 2002 ببنائه بقرض صيني بلغ 1.1 مليار دولار. بعد افتتاح الميناء في 2008، وظهور صعوبة أن تدفع سريلانكا اقساط دينها للصين، استطاعت الصين بموجب مبادرة الحزام والطريق أن توقع عقداً مع سريلانكا في عام 2017 تدفع بموجبه لسريلانكا أكثر من 1.1 مليار دولار تستخدمها الأخيرة لدفع قرضها للصين مقابل سيطرة الصين على الميناء لمدة 99 عاماً! القلق من “مصيدة الديون” يتكرر في سياق بعض الدول الإفريقية مثل كينيا وزامبيا التي تعاني صعوبات في دفع القروض الصينية التي ذهبت لتمويل مشاريع مبادرة الحزام والطريق فيهما. تحتاج هاتان الدولتان أن تخصصا أكثر من 20 بالمئة من دخلهما القومي لدفع الديون الصينية وفوائدها.

عربياً، وعلى الأخص في العراق، يُروج كثيراً للمبادرة الصينية على أنها تمثل حلاً سريعاً وبديلاً، يقترب من أن يكون سحرياً، لمشاكل التنمية الاقتصادية، مقارنة بـ”الحل” الغربي العسير المرتبط باشتراطات اقتصادية إصلاحية صعبة سياسياً (مثل ترشيق القطاع العام وتقليص هيمنة الدولة على الاقتصاد، فضلاً عن الشفافية في المعلومات وغيرها).

في الحقيقة، المبادرة الصينية لا تمثل حلاً، بل هي تكريس للمشكلة وتعميق لها، فمشكلة التنمية في العراق مثلاً، ليست مرتبطة بقلة الموارد وحاجة البلد مثلاً للاقتراض. ترتبط مشكلة التنمية الاقتصادية في العراق أساساً بالفساد المتجذر في مؤسسات الدولة العراقية بسبب الطبيعة الزبائنية للأحزاب التي تهيمن على السلطة في البلد. القروض والشركات الصينية لن تساهم بحل مشكلة الفساد في العراق، بل ستضيف له فصولاً جديدة تطيل من أمد عناء هذا البلد المبتلى بأحزابه الحاكمة.