سياسة التتريك.. حماقة محاولة محو الهويات
كمشتغل بالتاريخ أستطيع أن أقول بكل ثقة أن الحضارة الإسلامية هي الأكثر رقيًا وثراءً وعطاءً للحضارة الإنسانية خلال فترة التاريخ الوسيط، الذي يقدره المؤرخون بما بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديين.
هذا الرأي ليس تأثرًا بكوني مسلمًا ولا هو ناتج عن انفعال عاطفي، ولكنه رأي علمي تؤكده شهادات بعض المؤرخين الكبار من غير المسلمين أمثال غوستاف لوبون وزيغريد هونكه..
من أبرز أوجه هذا الثراء الحضاري حالة التنوع الإثني التي شهدتها تلك الحضارة (والإثنية هي الجماعة البشرية التي ترتبط بروابط دينية أو عرقية أو قبلية أو بعض أو كل تلك الروابط معًا).. فقد جمعت بين عناصر متنوعة عربية وغير عربية من فُرس وقبط وأمازيغ وسريان وتُرك وهنود ومغول وغيرهم..
وأثناء قراءة التاريخ يمكنك أن تجد في سياق موضوع حضاري واحد عدة أسماء ينتمي كل منها لإثنية مختلفة.. ففي سياق الحديث عن السياسة والدول نصادف الخلفاء العرب والسلاطين التُرك والخانات المغول والملوك الأفارقة، وترى الخليفة العربي الوليد بن عبد الملك يستعمل فارسي الأصل موسى بن نصير على المغرب فيتخذ ابن نصير من الأمازيغي طارق بن زياد قائدًا لجيشه.. وفي سياق العلوم والثقافة يمكننا أن نجد جدلًا علميًا بين فارسي كالإمام أبو حامد الغزالي وأندلسي كالفيلسوف أبو الوليد بن رشد وهما ينتميان لنفس الحضارة.. أو أن يتتلمذ مصري كالمقريزي على يديّ المغاربي ابن خلدون ثم يتتلمذ على يديّ المقريزي ابن تغري بردي وهو ابن لمملوك يوناني متمصر.
هذا التمازج والتعايش والتناغم بين الإثنيات المختلفة هو من أهم ما أعطى الحضارة الإسلامية رونقها واستحقاقها أن توصف بالحضارة العالمية..
صراع الهوية:
في عهد السلطان عبد المجيد الأول صدر “خطي كلخانه” و”خطي همايون” اللذان نصا على مساواة كل الرعايا العثمانيين أمام الدولة وتمتعهم بنفس الحقوق..
ولكن تنفيذ ذلك لم يعادل سوى قيمة الحبر المكتوب به المرسومان.. وفي العام 1876 نَص الدستور العثماني على مساواة كل الرعايا في الحقوق والالتزامات دون تفرقة بسبب انتماء ديني أو عرقي، ولكن هذا النص، بل والدستور كله، لم يكن سوى مناورة من السلطان عبد الحميد الثاني تمهيدًا لفرض حكمه وسياساته الدكتاتورية..
وعندما نشأ حزب “الاتحاد والترقي” كحركة معارضة قوية من ضباط الجيش العثماني بمقدونيا ضد سياسات السلطان عبد الحميد الثاني، سعى الاتحاديون لخلق تكتل كبير يقوم بـ”تطويق” السلطان من كل ناحية، فتوجهوا في العام 1902 لمختلف الإثنيات الساخطة على سياسات التهميش والعنصرية العثمانية ضدها وسعوا للتحالف معها ضد الطاغية الذي فوجئ بكتلة قوية من العرب والأرمن واليونان والأكراد والجراكسة والألبان واليهود وغيرهم، يقودهم الاتحاديون في العام 1908 لإجباره على إعادة العمل بالدستور والبرلمان ثم في العام التالي خلعوه عن عرشه وولوا مكانه أخوه الدمية محمد رشاد الخامس..
في العام 1909، عندما تأكد الاتحاديون من إمساكهم بمقاليد الحكم كشفوا عن الوجه العثماني العنصري القبيح وتنكروا لوعودهم بالمساواة والوحدة، وأظهروا أن رؤيتهم لـ”الاتحاد” لا تقوم على تنوع الإثنيات وإنما على إلغاء ذلك التنوع تمامًا وفرض التتريك بالقوة..
فالمجتمع العثماني آنذاك كان يشهد معركة بين تيارين أحدهما تغريبي يقوم على الهرولة لتبني النظم الأجنبية وآخر كان ينادي بالتجديد الإسلامي.. فنشأ بينهما تيار ثالث قومي تركي يقوم على اتحاد الشعوب المنتمية للإثنية التركية داخل وخارج الدولة العثمانية يدعى “الطوراني” (والطورانيون هو الاسم التاريخي القديم للشعوب التركية) فضلًا عن توجه “أصولي عثماني” مغرق في البحث عن مكونات الهوية العثمانية وموروثاتها الثقافية.. وقد تبني الاتحاديون هذا التيار منذ ما قبل خلعهم عبد الحميد الثاني، إلى درجة أنهم قد شجعوا حركة تسعى لتنقية اللغة التركية من أية مفردات عربية أو فارسية!
التتريك:
وعندما تولى الاتحاديون الحكم سارعوا لتطبيق تلك الرؤية العنصرية، فأغلقوا كل الجمعيات والأندية المنتمية لإثنيات غير تركية، وفرضوا مركزية التعليم والرقابة المشددة على المدارس وفرض استخدام اللغة التركية بها فضلًا عن إجراء مماثل بحق المحاكم التي يفترض أنها جهة “إقامة العدل” لمتقاضين من مختلف الإثنيات..
وفي المقابل سعوا لتأسيس جمعيات وأحزاب “طورانية/تركية” وراحوا يشجعون تنظيم الندوات والمحاضرات للترويج لفكرتهم تلك، إلى حد إرسال بعثات إلى الأقطار العربية الواقعة تحت الاحتلال العثماني لنشر فكرة تتريك التعليم.. بل أن حتى الشرطة في تلك الأقاليم كانت أحيانًا تتدخل لإجبار أصحاب المحال على تعليق لافتاتهم باللغة التركية..
وبينما يعرف التاريخ الإسلامي شخصية “جنكيز خان” كغازي مغولي معادي للمسلمين ارتكبت جيوشه بحقهم أبشع المجازر، قدمه العثمانيون الطورانيون باعتباره هو البطل والقائد الأكبر والأب الأعلى لهم.. في محاولة لمغازلة الشعوب “التركية التترية” في روسيا..
بل ولقد بلغت العنصرية ببعضهم أنه قد زار يومًا مسجدًا فوجد بأركانه نقوشًا بأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب فراح يقرّع الحضور ويبدي غضبه من أنهم يضعون في مساجدهم أسماء الخلفاء العرب ولا يضعون أي من أسماء سلاطين آل عثمان!
المثير أن تلك الحركة كانت برعاية الحليف الأكبر للعثمانيين آنذاك وهو ألمانيا، التي كان ساستها يرون في تلك الحركة وسيلة خبيثة لإثارة القلاقل لدى العدو المشترك روسيا من خلال تأليب الشعوب التركية الواقعة تحت الحكم الروسي.. بل وحتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط روسيا القيصرية وقيام الاتحاد السوفيتي حاول أنور باشا-قائد الجيش العثماني ومهندس مذابح الأرمن وأبرز القادة الاتحاديين-أن يتمدد في آسيا الصغرى لقيادة الحركة الطورانية بها لكنه فقد حياته في بعض المعارك ضد الروس وانتهت بهلاكه تلك الحركة العنصرية.
ختاما:
الطورانيون أو أصحاب حركة التتريك لم يكونوا بدعة بين العثمانيين، وإنما هم قد جاهروا بالمطوي في السياسات العثمانية والنظرة العثمانية المتعجرفة للشعوب الأخرى التي أراد لها حظها العاثر أن تقع تحت احتلال العثمانيين.. وسياساتهم لم تكن فقط بالعنصرية بل كانت تنم عن حماقة وعدم فهم لفلسفة الحضارة الإسلامية التي قامت في الأساس على أن ثمة حكمة في أن يُجعَل الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا، ولكن العثمانيين افتقدوا-فيما افتقدوا من مظاهر الحضارة-تلك الحكمة وذلك الفهم فكان ذلك من مثالبهم التي ساهمت في انحطاط الحضارة الإسلامية التي أراد لها القدر أن تكون نهايتها على يد بني عثمان.