سياسة

ذات 14 آذار

سناء الجاك


هو 14 آذار. هو اليوم الذي نزل فيه أكثر من مليون لبناني من جميع الطوائف والمذاهب والانتماءات الحزبية ليعبروا ليس فقط عن رفضهم وإدانتهم الاغتيال الوحشي لرئيس مجلس الوزراء السابق رفيق الحريري، ولكن أيضا للمطالبة بوطن.

كان ذلك في العام 2005. ومنذ ذلك الحين ومع نجاح جمهور 14 آذار بقلب الطاولة على المتحكمين بالقرار اللبناني، بدأ “حزب الله” بصفته ذراعا للمحور الإيراني، غير معلن في حينه، العمل للقضاء على البلاد وإغراقها في الانهيار وتفكيك أوصالها، وتحويل مؤسساتها إلى رميم.

شيئا فشيئا وبالتدريج الممل تارة والدموي في أكثر الأحيان، وعبر محطات تراوحت بين الاغتيالات لشخصيات يمكن أن تشكل رافعة لحركة 14 آذار عبر مشروع وطني، كجبران تويني وسمير قصير، أو شخصيات تكشف اللثام عن المجرمين المرتكبين كالرائد وسام عيد الذي قدم للمحكمة الدولية شبكة اتصالات عناصر حزب الله وارتباطها بالجريمة زمانا ومكانا، واللواء وسام الحسن الذي جمع من خلال شعبة المعلومات التي كان يرأسها خيوط التنفيذ.

فقد استدعى نزول هؤلاء اللبنانيين ممن رفعوا شعار “حرية.. سيادة.. واستقلال” أن يعيد المحور الإيراني لبرمجة مشروعه للمنطقة من خلال لبنان، ومن خلال تحويل “حزب الله” أداة تخريبية مجهزة بكل العدة اللازمة لإنشاء دولة داخل الدولة تقضمها وتصادر مصادرها وتسيطر على مرافقها.

وبعد 17 عاما على ذلك اليوم، لا بد من الإقرار أن المشروع الإيراني في لبنان إلى قمته، ونجاحه في تحويل البلاد ورقة بيده، يتلاعب بها ويوظفها ويفاوض بها.

انتهت الدولة. أفلست وأصبحت فاشلة.

لكن التناقضات الكبيرة والكثيرة التي تجاوزت لبنان إلى المنطقة بداية، وإلى قلب أوروبا بعد ذلك، ربما يمكن أن تشكل فسحة لإعادة الحسابات، لا سيما ما يتعلق منها بالتعقيدات التي تواجه مصالح إيران مع الغرب في التوازنات الجديدة التي ينتجها النزاع الروسي الأوكراني وما رافقه من تعطيل لمفاوضات فيينا.

فإيران المستعجلة نجاح المفاوضات ورفع العقوبات الأميركية عنها وتصدير نفطها وغازها، هي ليست إيران المرتاحة القادرة على خوض مغامرات تنتج حروبا، كما حصل في لبنان عام 2006.

اليوم لا تملك إيران إلا أن تكثف رسائلها في أكثر من اتجاه. ولعل إحدى هذه الرسائل قصف السفارة الأميركية في أربيل.

وأيضا يمكن تسجيل رسالة عبر الإعلان الإيراني عن مقتل ضابطين من الحرس الثوري في الغارة الإسرائيلية الأخيرة على مواقع قرب دمشق.

فمثل هذا الإعلان يشكل اعترافا بنجاح الغارة في استهداف الوجود الإيراني في سوريا، وفق الأدبيات العسكرية الإيرانية. بالتالي هو يستدعي الرد، أو بالحد الأدنى التصعيد.

لكن إلى أي حدود وفي أي اتجاه؟؟ وهل تملك إيران القدرة أو حتى النية للرد على العدوان الإسرائيلي؟؟

وهل يلبيها حزب الله هذه المرة، بعدما سكت على عمليات إسرائيلية استهدفت أشخاصا ومواقع استراتيجية في العمق الإيراني؟

أو أن الغارة تصلح للاستثمار في مسائل أخرى أكثر أهمية من قصف يكاد يصبح روتينيا ولم يحتل أي أهمية تذكر على مدى الأعوام الماضية؟

أين روسيا من هذه المسألة، لاسيما وأن الإسرائيليين ينسقون مع الروس قبل كل غارة؟

بالتالي، ربما يعتبر الإيرانيون أن التلويح بحسابات ميدانية جديدة انطلاقا من وجوب الرد على إسرائيل وتخريب التوازنات الحالية، هو موقف استراتيجي وورقة ضغط يمكن مقايضتها سواء بموقف روسي يقضي بوقف الشروط التي تعرقل مفاوضات فيينا في سياق الالتفاف على العقوبات الغربية عليها.. أو بتساهل أميركي في بعض الملفات.

لكن مثل هذا السيناريو يوحى بمدى الارتباك الإيراني بعد مطالبة روسيا بضمانات حتى توقع على المفاوضات في فيينا.

كذلك يشير إلى الارتباك بموقف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي لا يزال يتمسك بالتوجه شرقا، ويريد أن يوثِّق علاقات لبنان الاقتصادية والمالية مع روسيا في تحد للولايات المتحدة، التي تطلب إيران ودها على الرغم من المواقف العلنية، إلى درجة عدم اتخاذ موقف حازم ضدها إلى جانب بوتن.

أما انعكاسات هذا الارتباك وتطوراته، فهي مفتوحة على احتمالات متناقضة بانتظار وضوح في مسار النزاع في أوكرانيا وما ينتج عنه لجهة التوازنات بين القوى الكبرى.

ولن يغير في هذه التوازنات متى تبلورت، عرض العضلات في لبنان والسعي إلى مزيد من السيطرة، واعتبار استحقاق الانتخابات المرتقبة بعد شهرين معركة حياة أو موت.. كما كل معارك المحور وأذرعه.

فالأنظار ليست مسلطة على لبنان هذه الفترة، هو ليس رسالة. هو ورقة هامشية متروكة إلى حد ما للوكيل، ومصير هذه الورقة يمكن للبنانيين الذين ذات مرة في 14 آذار 2005 أثمروا ثورة أجهض مفاعيلها حكامهم، تكمن فقط في صناديق الاقتراع لمواجهة الاحتلال الإيراني لبلادهم، وعدم الاكتفاء بالتعبير عن رفضه عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

صحيح أن الأمل بالتغيير صعب، لكنه ليس مستحيلا. وصحيح أن من يتربص بإرادة نسبة كبيرة من اللبنانيين يفرض سلطته فقط بالسلاح والاستقواء على الآخرين بوقاحة لا مثيل لها، وعدم التورع عن الاعتداء على المعارضين بالضرب والإهانات كما حصل في معرض الكتاب العربي الذي شهدته بيروت، لدى اعتراض ناشط على صورة ضخمة مرفوعة لقاسم سليماني، ومن ثم التباهي، أو بالتصفية الجسدية ومن ثم التشفي والترويج لشائعات بالعمالة كما حصل لدى اغتيال لقمان سليم وغياب أي تحقيق جدي في الجريمة.

لكن الصحيح أيضا أن لا أحد، ولا حتى المحور الإيراني بكل أذرعه، وبكل استعراض القوة والتفاخر بمئة ألف مقاتل، والتركيز على أن الانتخابات لا يمكن أن تغير شيئا في هيكلية المنظومة المحكومة والمروضة من “حزب الله”، يمكنها أن تزوِّر إرادة شعب، إذا ما شارك اللبنانيون الرافضون الاحتلال الإيراني في الإدلاء بأصواتهم ضد الحزب والمنظومة التي يرعاها في صناديق الاقتراع.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى