سياسة

درب الإصلاح العراقي لا يمر بفلسطين


أدت احتجاجات القدس الشرقية التي تصدرها شباب فلسطينيون احتجاجاً على إخلاء بضع عوائل فلسطينية من أحد أحياء المدينة، وتطورها السريع، إلى مواجهات صاروخية وعسكرية بين حركة حماس المتمركزة في غزة والجيش الإسرائيلي، إلى إحياء جدل عراقي تقليدي بخصوص معنى فلسطين في العراق “الجديد” بعد 2003.

لأسباب معقدة لكنها مشروعة، تشعر غالبية العراقيين أن “القضية الفلسطينية” لم تعد مركزية بالنسبة لهم، وأن الأولوية القصوى ينبغي أن تكون إصلاح الخراب العراقي الكبير والمتراكم، والتأكيد على مفهوم “العراق اولا”. وحتى مع التعاطف الشعبي العراقي الواسع مع العناء الفلسطيني، كان هناك ما يشبه الإجماع السياسي بخصوص أهمية النأي بالعراق عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتعقيداته الكثيرة.

تغيرَ هذا بعد بروز “محور المقاومة” في العراق في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في سورية، وقرار هذا المحور الإقليمي بزعامة إيران، الدفاع عن نظام الرئيس بشار الأسد بدعوى أن استهداف هذا النظام هو مخطط أميركي-إسرائيلي للتخلص من آخر المصدات العربية ضد إسرائيل، لتصفية القضية الفلسطينية”.

رغم أن هذه الحجة واهنة، ولم تلقَ قبولا شعبياً عراقياً، استطاع ممثلو “محور المقاومة” تدريجياً فرضها في أجندة السياسة والإعلام في البلد. لم تكن هذه الأجندة تبرز سابقاً إلا في مناسبات نادرة لتثير جدالاً عاماً عابراً ينتهي سريعاً، كما في الجدالات المعتادة في الجمعة الأخيرة من كل شهر رمضان، حيث المسيرات احتفاءً بيوم القدس العالمي، ثم فيما بعد، الخلاف العراقي-العراقي بخصوص مشاركة جماعات مسلحة عراقية في القتال في سورية. ورغم أن هذا الخلاف كان أكثر حضوراً، من يوم القدس العالمي، في الجدالات العراقية تأييدا ومعارضةً، فإنه ظل هامشياً عموماً في جدالات السياسة في العراق.

نقطة التحول التي قادت إلى البروز الواضح لأجندة “محور المقاومة” جاءت سريعةً نسبياً. كان البدء في صيف 2019 حين ارتفعت سخونة المواجهة الأميركية-الإيرانية، ودخول إسرائيل على خط هذه المواجهة، بقصفها مواقعَ عراقية تابعة لفصائل من “محور المقاومة” كانت على الأكثر تحوي أسلحة إيرانية دخلت للعراق من دون علم الحكومة. وقبل أن تنتهي أزمة ذلك الصيف الصعب، اندلعت احتجاجات اكتوبر/تشرين الأول الشعبية، لتضع كامل “محور المقاومة” في أزمة عميقة لم يتهيأ لها أو يتوقعها.

فاجأت شدة الاحتجاجات واتساعها ومطالبتها الإطاحة بمنظومة ما بعد 2003، واستبدالها بأخرى تبني وطناً يليق بالعراقيين، هذا المحور ودفعته سريعاً لشيطنتها ومواجهتها بقسوة بالأدوات الأمنية المتوفرة لديه، خصوصاً بعد اعتبار زعامات إيرانية هذه الاحتجاجات أعمالَ شغب تحركها قوى معادية، صهيونية أميركية، في استرجاع آخر وبائس، لنظرية المؤامرة. لم يقنع هذا التبرير الغالبية القصوى من العراقيين الذين رأوا في الاحتجاجات محاولةً شعبيةً وطنيةً عراقية لإصلاح الخراب الهائل الذي تسببت به منظومة الأحزاب المهيمنة ما بعد 2003 التي تدعمها إيران ويشكل “محور المقاومة” جزءاً منها.

من هنا انقسم الرأي العام العراقي، في ظل التغيرات الهائلة التي أحدثتها حركة الاحتجاجات في البلد على مستوى المجتمع، بين تفسيرين متناقضين لفهم السياسة ومعنى الإصلاح: التفسير الأول ويمثل غالبية العراقيين الساحقة هو أن أزمة البلاد، من فساد مالي وفقر الخدمات وتردي الاقتصاد وانسداد الأفق العام، هي عراقية، وتتحملها الأحزاب المتنفذة التي تحاصصت في السلطة ومواردها واحتكرت قراراتها، وبالتالي فإن الحل عراقي ويتضمن إصلاحاً جذريا يُفقد هذه الأحزاب اقطاعياتها الاقتصادية والسياسية والمؤسساتية الممتدة في جسم الدولة.

أما الرأي الثاني، فيمثله “محور المقاومة” بجمهوره المحدود نسبياً، فهو مهتم بـ”أقلمة” الازمة العراقية واعتبارها جزءاً من صراع إقليمي بين “محور المقاومة” الممتد من إيران والمار بالعراق وسورية ولبنان وغزة، وأخيراً، اليمن، ومحور “الاستكبار العالمي” الذي تتزعمه أميركا، ورأس حربته إسرائيل، كما يصر عليها على نحو غير مقنع، إعلام “المقاومة”. بحسب هذه السردية، فإن المعركة الأولى والأساسية التي ينبغي التركيز عليها وحشد الطاقات لأجلها هي معركة الانتصار على هذا المحور، حتى من دون تقديم ولو ما يشبه خارطة طريق لكيفية تحقيق هذا الانتصار!

يمر “محور المقاومة” سريعاً على مفاصل الأزمة العراقية، فلا يقدم شرحاً يربط فيه كيف تسببت إسرائيل، مثلاً، بتفشي الفساد، وتدهور الخدمات، وهيمنة الإقطاع الحزبي في البلد، خصوصاً أن الأحزاب التي تدير هذا الإقطاع وتهيمن عبره على الدولة هي أحزاب سياسية شيعية حليفة لإيران وتمثل أحد خطوط الدفاع الأساسية عن “محور المقاومة”. لا تتعدى محاولات الربط الذي عرضه هذا المحور تفسيراتٍ مؤامراتية وتخيلات أيديولوجية لا تصمد أمام أي تفحص منطقي رصين.

بإلغائه الخصوصية العراقية، وسعيه الحثيث لدمج العراق بصراع إقليمي أوسع، يكرر “محور المقاومة” الخطأ الفادح الذي ارتكبه نظام صدام وكلفه غالياً، عندما “أقلم” الهموم العراقية باسم القومية العربية وضرورة الانتصار على محور الشر الأميركي-الإسرائيلي. يؤقلم “محور المقاومة” اليوم الهموم العراقية باسم الإسلام السياسي، عبر الترويج لانتصار موهوم ضد “محور الاستكبار.”

درس احتجاجات تشرين (أكتوبر) الأهم هو أن المشكلة عراقية وإصلاحها عراقي ولا يمر بفلسطين.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى