سياسة

تونس: حركة النهضة وحيدة في مواجهة أزمتها

عبد العزيز الخميس


تعتبر تجربة حزب النهضة في تونس، تجربة مهمة في مآلاتها، والدروس التي قدمتها تستحق التوقف والإمعان والتدبر في عالمنا السياسي العربي. لم يكن حدث 25 يوليو 2021 في تونس، بالنسبة لحركة النهضة الإسلامية، سوى تعميق لأزماتها الداخلية وتأكيد على أنها حركة تجتر أزماتها العميقة من داخلها ومن تاريخها

على ذلك فإن قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد التي أعلنها يوم 25 يوليو، استهدفت حركة النهضة في المقام الأول، تبعا لهيمنتها على المشهد السياسي التونسي طيلة عقد كامل من جهة أولى، وتبعا للأزمات الكامنة التي كانت تعيشها الحركة من جهة ثانية. الأزمة التي تعيشها حركة النهضة اليوم، والتي تمظهرت في سلسلة أحداث متتالية، يمكن اعتمادها في استخلاص الكثير من الدروس والعبر، للكثير من الحركات الإسلامية والعقائدية العربية.

عندما أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد إجراءاته يوم 25 يوليو 2021، كانت حركة النهضة مصابة بأعطاب كثيرة، بعضها داخلي متصل بأزمة الدمقراطية الداخلية من خلال هيمنة راشد الغنوشي وزمرته على القرار داخل الحركة، وبعضها مرتبط بالسياقات التونسية والإقليمية والدولية التي لم تعد في صالح الحركة، ولذلك كانت النهضة أكبر متضرر من قرارات 25 يوليو التي كشفت ماضي الحركة الملي بالأزمات الفكرية والسياسية والتنظيمية مثلها مثل غيرها من الحركات الإسلاموية في عالمنا العربي، والتي دفعت أيضا (أي قرارات 25 يوليو) إلى طرح أسئلة عن مستقبل الحركة، بالنظر للتداخل الكبير بين أزمات الحركة وتأثيرات قرارات قيس سعيد.

ولعل ما واجهته الحركة بعد 25 يوليو من أحداث أقام الدليل على أن تجربتها السياسية، انطلاقا من مفصل 14 يناير 2011 (تاريخ نهاية حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي)، تُعدّ تجربة سياسية غنية بالدلالات المفيدة التي يمكن إسقاطها على تجارب عربية أخرى، مع مراعاة الفوارق التاريخية والاجتماعية.

وقفت النهضة عارية أمام حقيقتها يوم 25 يوليو حين خرجت الجماهير التونسية محتجة على حصاد السنوات العجاف التي حكمت خلالها النهضة البلاد، وحين وجهت سهام غضبها على مقرات الحركة في أكثر من جهة ومدينة، وأيضا حين خرج الناس للاحتفال في الشوارع مساندة لقرارات سعيد، وأخيرا حين تُرك راشد الغنوشي وحيدا على أسوار مقر البرلمان رغم توجيهه لنداءات كثيرة لقواعد الحركة وأنصارها. كانت هذه المشاهد دالة على أن الحركة تعيش عزلة جماهيرية عميقة ترتبت عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي ترتبت عن إهمال الحكومات المتعاقبة لكل انتظارات الناس بالتركيز على مساعي التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة.

قبل 25 يوليو 2021 كانت حركة النهضة مطمئنة على وضعها السياسي في البلاد، ومزهوّة بدعم سياسي وإعلامي خارجي، ومرتاحة بتقدم سيطرتها على البلاد بعد أن سربت عناصرها وقياداتها إلى كل مفاصل الدولة، ومنتشية بتدجينها للقضاء، ولم تأبه لأزماتها الداخلية التي بدأت تظهر للعيان منذ المؤتمر العاشر للحركة في مايو 2016، والذي كرس الفصل بين الدعوي والسياسي لكنه عجز عن حسم مسألة الديمقراطية الداخلية باعتبار أن المؤتمر كان مطبوعا بصراع حاد بين جماعة رائد الغنوشي وبين جناح آخر سأم انفراده بالقرار والسلطة داخل الحركة.

انتصر جناح الغنوشي لكن الحركة خسرت امتحان الديمقراطية، وتتالت الاستقالات والمواقف الغاضبة: إعلان زبير الشهودي، عضو مجلس شورى النهضة ورئيس مكتب راشد الغنوشي، إنهاء كل مهامه القيادية داخل الحركة، يوم 17 سبتمبر 2019، واستقالة زياد العذاري الأمين العام للحركة في نوفمبر 2019، ثم استقالة القيادي التاريخي عبدالحميد الجلاصي في مارس 2020، عقب ذلك توجيه أكثر من 100 قيادي نهضوي، في 16 سبتمبر 2020، رسالة غاضبة إلى الغنوشي عبروا فيها عن رفضهم ترشحه لرئاسة الحركة في عهدة أخرى.

كانت تلك المواقف وغيرها أدلة على أن الحركة تعيش أزمة حادة عجزت عن منع خروجها من أروقتها الداخلية، لتأتي لحظة 25 يوليو لتمثل منعطفا خطيرا أعلن خروج الحركة من الحكم، ووضعها في دائرة المسائلة الشعبية والقانونية.
جرد الرئيس التونسي قيس سعيّد النهضة من كل أسلحتها التشريعية والقضائية والمالية والإعلامية التي هيمنت بها على المشهد السياسي التونسي: تجميد البرلمان أوقف الهيمنة النهضوية على القرار السياسي، ودعوات سعيّد لتطهير القضاء من الفساد أوقفت هيمنة النهضة على السلطة القضائية من خلال القيادي نور الدين البحيري، كما كانت أغلب الإيقافات والتحقيقات والقضايا التي باشرت مكافحة الفساد موجهة في جانب كبير منها إلى حركة النهضة. وعندما جُردت النهضة من كل أسلحتها انكفأت إلى مظلوميتها القديمة التي دأبت على استعمالها منذ تأسيسها.

كان الحريق الذي اندلع في مقر حركة النهضة يوم 9 ديسمبر الماضي، الذي حصل بفعل سكب عنصر نهضوي البنزين على جسده، دليلا آخر على أن أزمات النهضة الداخلية بدأت تصيب الحركة بشظاياها، وكان الحدث يماثل في خطورته حدث 25 يوليو، إذ كان الحدث الثاني يمثل خروج النهضة من الحكم، في حين كان مشهد انتحار سامي السيفي في مقر الحركة يختصر الاعتمال الداخلي الذي تعيشه الحركة، خاصة في ما عقبه من مواقف غاضبة من تعامل الحركة مع قواعدها وأنصارها. وكان إيقاف القيادي نور الدين البحيري (نائب رئيس الحركة) بمثابة ذروة الأزمة في الحركة، إذ كان إيقافه ووضعه قيد الإقامة الجبرية مؤشرا على شلل الحركة لما يمثله الرجل من سطوة قضائية وسياسية وتنظيمية.

تعيش حركة النهضة في الأشهر الأخيرة وضعا حرجا توقعه البعض منذ أعوام، ولعل الحديث المتواتر عن قرب إيقاف راشد الغنوشي (باعتبار التحقيقات المتعلقة بمخالفات تمويل الحملة الانتخابية للعام 2019) يجعل من مستقبل الحركة محفوفا بمخاطر كثيرة يمكن التقاطها لاستخراج دروس سياسية بالغة الاهمية لكل الأحزاب التي اتكأت على مرجعيات دينية وأدارت ظهرها لهموم الناس وانشغالاتها الاقتصادية والاجتماعية.

الدرس الأول المستفاد من تجربة حركة النهضة في حكم تونس يتمثل في أن كل حزب يشتغل على مسارات أخرى غير مسار خدمة انتظارات الناس سيكون مصيره الأفول ولو بعد حين. انشغلت النهضة منذ قفزها للحكم عام 2011 بمساعي التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة، ودبرت تحالفاتها وفق هذا المسار، وعندما تهيأ لها أنها هيمنت على الدولة جاءت قرارات 25 يوليو لتجردها من أسلحتها، فوقفت وحيدة في مواجهة شعب يكابد الأزمة، وفي مواجهة أنصارها وقواعدها الذين سأموا غياب الديمقراطية داخل الحركة، وملوا تحويلهم إلى مجرد أرقام انتخابية لا وزن لها في صنع القرار.

الدرس الثاني مفاده أن الفقر من البرامج لا يمكن إن يؤدي إلا إلى الفشل في الحكم باعتبار أن الحكم يُقيّمُ بمؤشرات التنمية وحقائق الاقتصاد، ولا يمكن للتبريرات القائمة على المكائد والمؤامرات الإقليمية والدولية أن تدوم، لأن خطابات المظلومية ونظريات المؤامرة سينتهي مفعولها حتما ليقف الناس على أن إعادة مناويل تنمية جربت وفشلت لا يمكن إلا ان يؤدي إلى نتائج أكثر خطورة من التجارب السابقة.

الدرس الثالث وهو درس الديمقراطية، يضع النهضة في مواجهة شعبها وفي مواجهة قواعدها. منذ العام 2011 كانت النهضة تعرف الديمقراطية وتختصرها على أنها نتائج انتخابات ومنافع حكم، وكانت تعرف “الشرعية” على أنها تعني وجودها في السلطة بما تمثله من مناصب وفوائد وفرص للتمكين. ولذلك ووجه دفاعها عن “الديمقراطية” بعد 25 يوليو بسخرية واسعة لأنها كانت تدافع عن قيم لم تؤمن بها ولم تمارسها عندما كانت في الحكم.

الدرس الأخير هو درس فكري، إذ ان النهضة عجزت طيلة عقود من تاريخها ومن وجودها عن حسم هويتها الفكرية؛ هل هي حزب أم جماعة؟ ولئن أفادتها تلك المراوحة بين المنزلتين في مرحلة معينة باعتبار أنها مثلت طوق نجاة لها من اختبارات سياسية كثيرة، إلا أنها تحولت إلى عقبة أثناء ممارستها للحكم. كانت النهضة تروج لأنصارها أنها مازالت حركة إسلامية وفية لهويتها وأدبياتها، في حين كانت تسوق لبقية الأحزاب السياسية وللخارج على أنها حزب مدني يؤمن بالديمقراطية والدولة المدنية. ترنح زاد من أزمتها باعتبار أنها وجدت نفسها واقعة بين قطبين، يسعى كل قطب منهما إلى سحب الحركة نحو مداره. فظلت تحاول المناورة بين هوية مضمرة واخرى معلنة، إلى أن أكدت قرارات 25 يوليو أنها لا تملك سوى الركون إلى منطلقاتها الفكرية المنغلقة.
كان حدث 25 يوليو اخ…

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى