سياسة

المليشيات تجترح الذرائع لإضعاف العراق

حميد الكفائي


طالما تشدقت المليشيات في العراق بأنها تحارب (المحتل) الأمريكي باعتبار أن (المقاومة) حق كفلته المواثيق الدولية، لكن الحقيقة هي أنها لا تسعى إلا لإضعاف الدولة وإفقارها وجعلها ساحة حرب ومنطقة غير مستقرة، خدمة لأهداف داعميها الأجانب.

وتستغل هذه المليشيات ضعف الحكومة غير المدعومة سياسيا، والتي (يطمح) أفرادها في البقاء بمناصبهم الهزيلة، دون اكتراث لتماسك الدولة ومصلحة الشعب، لتنفيذ مآربها في استهداف السفارات والمطارات والقواعد العسكرية التي تضم قوات صديقة ومستشارين أجانب وأرتالا عسكرية عراقية وصديقة.

هذه المليشيات، التي يتقاضى أفرادها رواتب من الدولة العراقية باعتبارهم منتسبين لـ(الحشد الشعبي) الذي يعتبر مؤسسة أمنية عراقية تتبع القوانين العراقية بموجب القانون رقم 40 لسنة 2016، تلعب دورين متناقضين. الأول هو أنها قوة أمنية عراقية وجزء من القوات المسلحة العراقية، وواجبها في هذه الحال أن تأتمر بأمر القادة الرسميين وتلتزم القوانين العراقية، ولا تمارس السياسة كما ينص على ذلك الدستور (المادة 9-أولا- الفقرتان -أ و-ج).

والدور الثاني هو أنها (مقاومة إسلامية) تستهدف قوات الاحتلال الأمريكي، علما أن الجميع يعلم أنه لا يوجد أي احتلال، فالقوات الأمريكية غادرت العراق عام 2011 بطلب من الحكومة العراقية، لكن قوة أمريكية صغيرة، جاءت لتقديم الاستشارات والمعلومات الاستخبارية والتدريب للجيش العراقي، بطلب من الحكومة العراقية عام 2014 بعد سقوط الموصل والأنبار وصلاح الدين ومدن عراقية أخرى في أيدي تنظيم داعش، وقد كان لها دور فاعل، إلى جانب القوات العراقية، في إلحاق الهزيمة بداعش وإسقاط حكمها الذي دام ثلاث سنوات.

فإن كانت هذه الجماعات المسلحة جزءا من مؤسسات الدولة العراقية، فلماذا تتصرف دون أمر من القيادات العسكرية العراقية؟ ولماذا تهاجم مطاري بغداد وأربيل والقواعد العسكرية العراقية بصواريخ الكاتيوشا وطائرات إيرانية مسيرة، ما يضطر القوات العراقية لصدها وإسقاطها؟ والسؤال الذي لم تجب عليه الحكومة العراقية حتى الآن، هو لماذا يبقى قادة هذه الجماعات، الذين يصرحون بولائهم للنظام الإيراني وتبعيتهم له، في مواقعهم القيادية دائما ويتصرفون باستقلالية تامة، ويزورون إيران متى ما شاءوا ويتباحثون مع قادة الحرس الثوري الإيراني، ويطلقون التهديدات والتصريحات السياسية المناهضة للسياسة الرسمية العراقية، ويكيلون الاتهامات والإهانات للمسؤولين الحكوميين، ابتداءً من الرئاسات، التي لم نعد نعرف عددها بسبب كثرتها، وانتهاء بضباط الشرطة الذين يؤدون واجباتهم بملاحقة القتلة والمجرمين؟

بل يقوم أفراد هذه الجماعات، وحسب اعترافات بعضهم الذين أُلقي القبض عليهم بالجرم المشهود، باستهداف وقتل ضباط الشرطة الذين يحققون في جرائم يشتبه بأنهم تورطوا فيها، كما حصل في البصرة مؤخرا عندما استُهدف ضابط تحقيق بعبوة ناسفة أثناء مرور سيارته قرب مقر عمله، ونجا منها بقدرة قادر. لكن زميلا له لم يسعفه الحظ، إذ تمكنوا من اصطياده وقتله قبله بأسابيع.

ولماذا يترأس رئيس هيئة الحد الشعبي قائمة انتخابية ويتفاوض مع السياسيين الآخرين بهدف تشكيل الحكومة المقبلة، إن كان الحشد الشعبي مؤسسة عسكرية بحتا؟ ولماذا أقاله رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، من منصبه قائلا إنه يخالف مهامه الأمنية بممارسته نشاطا سياسيا، لكنه عاد الآن وتحالف معه سياسيا، مع علمه أنه يخالف القانون والضوابط السياسية والعسكرية معا؟

من الواضح أن هناك خلطا مقصودا بين المهام السياسية والعسكرية، وأن هذه الجهات التي تدعي أنها أمنية هي في الحقيقة جهات سياسية تستخدم السلاح والقوة العسكرية لتمرير مشاريعها السياسية. ولو كانت مشاريعها السياسية وطنية بحتا، لهان الامر قليلا، لكنها مرتبطة بدولة أخرى تسعى منذ عقود لزعزعة استقرار العراق، وجعله ألعوبة بيدها وتابعا لها، تسخره حيث تشاء، وتضرب به خصومها ومنافسيها الإقليميين والدوليين.

الجماعات المسلحة تستغل ضعف الحكومة وسعي قادتها الحثيث إلى البقاء في المناصب التي حصلوا عليها في غفلة من الزمن وفي ظل أزمة سياسية واقتصادية وصحية، غير مكترثين بأن وجودهم ضرر كلي على العراق، بل أصبح عبئا ثقيلا على الدولة والمجتمع. لذلك أصبح من الضروري أن تتشكل الحكومة المقبلة من القوى الفائزة في الانتخابات كي تكون مسنودة سياسيا، وألا تتكرر تجربتا عامي 2018 و2020، عندما تشكلت من أفراد لا يتمتعون بالتأييد السياسي ولا الحنكة السياسية أو الخبرة الإدارية المطلوبة.

وفي ضوء هذا الضعف، ليس من المتوقع أن ترد الحكومة الحالية على الاستهدافات الأخيرة للجماعات المسلحة لمطار بغداد والقواعد العراقية التي تستضيف مستشارين أو قوات أجنبية، أو تحقق في مصدر وموقع انطلاق الطائرات المسيَّرة التي أصبحت سلاحا ماضيا في تدمير المؤسسات العسكرية والمدنية العراقية، ومن المؤكد أن هذه الطائرات ليست من صنع العراق، رغم أنها جُمعت ورُكِّبت في قواعد عسكرية عراقية لا تستطيع الدولة أن تتحكم بها، أو تصل إليها، لأنها تقع تحت سيطرة هذه المليشيات التي تخشاها الحكومة (الديمقراطية) التي يفترض أنها تمثل الدولة وتخدم مصلحة الشعب.

المطلوب من الحكومة المقبلة أن تتصرف كحكومة حقيقية مكتملة الأهلية، كما تفعل باقي الحكومات في الدول الأخرى، وتنتزع السلطة والقوة والنفوذ بقوة القانون من الجهات الخارجة على القانون، وألا تبقى تتفرج من أجل البقاء في السلطة، مهما كانت هذه السلطة هزيلة، كما تفعل الحكومة الحالية. القوى الفائزة في الانتخابات الأخيرة تقع عليها مسؤولية كبرى، وهي تشكيل حكومة قوية من السياسيين والخبراء المتمرسين كي تستعيد سلطة الدولة من جماعات تخدم مصالح دول أخرى، على حساب استقرار العراق ومستقبل شعبه.

يتوهم ذوو الخبرات السياسية المحدودة، والعواطف الجياشة الكامنة في غير موضعها الصحيح، أن دولة ما يمكن أن تخدم دولة أخرى لأسباب طائفية أو دينية. وهذا المبدأ أو التوجه ليس قائما في أي عصر من العصور، وبالتأكيد ليس قائما في هذا العصر، فالحكومات تخدم الدول التي تحكمها فقط، وإن تعاونت مع الدول الاخرى فإن شرط التعاون الأول والأخير هو أن يكون لمصحة الدولتين معا، وليس لمصلحة دولة على حساب أخرى. لذلك، من غير المحتمل أن تسعى دولة لخدمة دولة أخرى دون مقابل، فهذا الأمر لا يحصل مطلقا، وعلى أولئك البسطاء الذي أصبحوا مسؤولين في العراق أن يعوا هذه الحقيقة ويعملوا وفقها. الدول تتنافس فيما بينها من أجل خدمة مصالحها، ولا تقدم العون للآخرين مجانا ودون مقابل.

لا تهتم الدول الحديثة، ولا حتى القديمة، لمسألة عقائد السكان وأديانهم وطوائفهم، سواء كانوا ضمن أراضيها أو في الدول الأخرى، وكل الذي يعنيها هو مصالح الدولة والمجتمع الذي يقع ضمن حدودها. وقد سنَّت الدول والإمبراطوريات القوانين لحماية رعاياها من كل الأديان والطوائف، وإن حصلت تجاوزات هنا وهناك، فإنها كانت استثناءات أُصلِحَت فيما بعد عبر سن القوانين والمواثيق الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول.

وفي هذا العصر، لم يعد تعدد الأعراق والأديان والمذاهب، يشكل عائقا أمام الشعوب كي تتعايش وتتعاون، خصوصا وأنها جاءت كي تساعد الإنسان ليكون صالحا ومنتجا وسعيدا وسلميا. لقد أصبحت فرنسا حليفة لألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وأصبحت الولايات المتحدة صديقة لليابان وفيتنام، بعد كل الحروب والخلافات التي جرت بينها في القرون الماضية.

أثيوبيا ذات الغالبية المسيحية تأريخيا يحكمها حاليا رجل مسلم، أبي أحمد، الذي يعمل لصالح أثيوبيا وسكانها جميعا، وفي عهده استُغِلَّت معظم مياه النيل في إثيوبيا، وتقلصت كميات المياه المتدفقة إلى مصر والسودان، فمسؤولية أحمد الأولى والأخيرة هي تجاه شعبه الأثيوبي الشديد التنوع. وبريطانيا ذات الغالبية البروتستانتية تأريخيا، حكمها الكاثوليكي توني بلير، ويحكمها حاليا بوريس علي كمال جونسون، ذو الأصل التركي، بالتعاون مع الباكستاني الأصل سجاد جاويد والعراقي ناظم الزهاوي، والهندية الأصل بريتي بيتيل والهندي الأصل ريشي سوناك، ولكل منهم دينه وخلفيته الثقافية المختلفة، لكن الذي يربطهم معا هو العمل الجاد لمصلحة بريطانيا وليس الدول الأخرى التي انتموا أو ينتمون إليها تأريخيا أو ثقافيا.

الجماعات العراقية الموالية لإيران تسببت في تمزيق العراق وتدمير اقتصاده وزعزعة استقراره وإرهاب شعبه وتهجير الكثير من سكانه، خصوصا ذوي المهارات والاختصاصات المطلوبة، وإن لم يواجهها الشعب العراقي بقوة، مستعينا بالمجتمع الدولي، فإنها سوف تتغول وتتحول إلى خطر يهدد المنطقة برمتها. الشباب العراقيون واقفون في وجهها بقوة وشجاعة منقطعة النظير، وقدموا تضحيات جساما في هذا السبيل، ولا شك أنهم سيتمكنون من ردعها، لكن الخسائر ستكون كبيرة إن لم يقف المجتمع الدولي معهم.

سكاي نيوز

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى